لماذا تخاف النخب السودانية من الهامش، ومن العلمانية، ومن المرآة التي تعكسها العدالة التاريخية
11/10/2025 خالد كودي، بوسطن
الجزء الأول:
على الرغم من الخطاب المتكرر عن "الانفتاح على جهود الرباعية الدولية" و"الاستعداد للتعامل الإيجابي مع المساعي الرامية لوقف الحرب"، فإن النخب السودانية — الدينية منها والمدنية على السواء — ما زالت عاجزة عن مواجهة الاستحقاقات الجوهرية للسلام العادل والمستدام وتصر على مواصلة المناورة والاحتيال. فبينما تتحدث بلسان الدبلوماسية وتغرق في بيانات "التوافق" و"الحياد"، تظل في جوهرها متمسكة ببنية الدولة القديمة التي تضمن امتيازها التاريخي، وتتحاشى كل ما من شأنه أن يضمن المواطنة ومستحقاتها، او يعيد توزيع السلطة أو يفتح ملفات العدالة التاريخية، كأنّ ما جرى من دمار لم يكن كافيًا بعد لكشف عري الامتياز! النخب غير المنتمية صراحة إلى المشروع الإسلامي، فهي وإن ترفع شعارات "المدنية والديمقراطية" و"الحرية والمساواة"، إلا أنها، ومهما ادعت تطمح إلى تغيير محدود يحافظ على مواقعها في النظام القائم، لا إلى قطيعة جذرية مع بنية الامتياز نفسها. فهي نخب انتقائية تطلب من الثورة ما يوسّع حرياتها الخاصة، لا ما يهدد موقعها الطبقي أو الرمزي؛ تريد إصلاحًا يُجمّل بنية السلطة لا عدالةً تُعيد توزيعها. وهكذا، تتقاطع مع الإسلاميين في الغاية البنيوية ذاتها: صون الشكل القديم للدولة الذي يبقي المركز مركزًا، والهامش تابعًا. لقد علّمنا التاريخ أن الحروب ليست كلها شرورًا مطلقة، فبعضها ضرورة أخلاقية حين تُغلق أمام الشعوب أبواب العدالة السلمية. قال توماس جيفرسون: "إن الحرب هي الطريق المرير الذي تسلكه الشعوب حين تُغلق أمامها سبل العدالة." فقد خاض الأمركان حرب استقلالهم طلبًا للسيادة، وخاض مانديلا ورفاقه نضالهم المسلح ضد الأبارتيد دفاعًا عن المساواة، ورأى فانون في الحرب " صرخة الإنسان المقهور وهو يستعيد إنسانيته من بين أنقاض الاستعمار"، واعتبر ماو تسي تونغ أن "الحرب الثورية استمرار للسياسة بوسائل حاسمة حين تُغلق سبل الإصلاح." لكن حرب 15 أبريل في السودان لم تكن من ذلك الصنف النبيل أو المشروع. لم تكن حرب كرامة أو حرية، بل حرب النخبة ضد المجتمع؛ حرب أشعلتها الحركة الإسلامية التي سقط حكمها، ومعها حلفاؤها من النخب المركزية، لا دفاعًا عن الوطن، بل دفاعًا عن امتيازٍ بُني على الدين والهيمنة الاقتصادية والتمييز العرقي والجهوي. وفي المقابل، لم تبتعد النخب المدنية كثيرًا عن هذا المسار، إذ لبست ثوب المعارضة لكنها ظلت تخشى التغيير الذي يهدد تراتبية الامتياز التاريخي. إنها نخب تريد "سلامًا بلا مساءلة"، و"حرية بلا مساواة"، و"ديمقراطية بلا عدالة تاريخية". ومن سيجرؤ اليوم على الاعتراف بأن حرب 15 أبريل لم تكن خطأً استراتيجيًا، بل ضرورة وجودية لتلك النخب التي رأت في الحرب وسيلتها الأخيرة لتأجيل سقوط منظومة الامتياز؟ لقد كانت حربها الرمزية ضد أي مشروع لبناء دولة جديدة تُساوي بين الناس في الكرامة والمواطنة والحقوق. فهي تدرك أن السلام الحقيقي يعني فتح ملفات التاريخ، وأن العدالة التاريخية ستسائلها جميعًا — لا الإسلاميين وحدهم — عن دورها في صون بنية الهيمنة القديمة. قال أنطونيو غرامشي. "حين يعجز القديم عن الموت، ولا يستطيع الجديد أن يولد، تنفجر اللحظة بينهما في شكل أزمة." وهكذا، فالحرب في السودان ليست مواجهة بين جيشين، بل صراع على معنى الدولة واتجاه التاريخ. إنها حرب تخوضها النخب القديمة، الدينية والمدنية معًا، بوسائل مختلفة لتأجيل ميلاد السودان الجديد الذي يهدد احتكارها للسلطة والمعرفة والثروة. إنها بنية تخشى المساواة كما يخشى الظالم العدالة، وتقاتل لا لتنتصر، بل لتُبقي الباب مواربًا أمام ماضٍ يرفض أن يُدفن!
لكنّ لحظة الحساب تقترب، وحين يسأل التاريخ من الذي قاتل من أجل الحرية ومن الذي دافع عن امتيازه، لن تُجدي بيانات "التوافق" ولا شعارات "الحياد" في إخفاء الحقيقة: أن من يرفض التغيير وبناء وطن علماني ديمقراطي لامركزي قائم على العدالة التاريخية ومؤسساتٍ أمنية جديدة، إنما يختار — بوعيٍ أو بدونه — استمرار الحروب. إن دعوات النخب إلى "وقف الحرب" و"التوافق الوطني" بمعزلٍ عن مواجهة جذور الأزمة ومحاسبة المتورطين ليست سوى محاولة لتجميد اللحظة التاريخية قبل أن تنقلب عليهم. فهي تدرك أن أي سلامٍ حقيقي سيُعيد توزيع السلطة والثروة، ويفتح ملفات العدالة، ويمنح الهامش حقه في التأسيس لا التبعية — وهذا ما لا تحتمله النخب التي تعرف أن السلام العادل يعني نهاية امتيازها التاريخي. وهكذا، تبدو النخبة السودانية — التي احترفت الخطابة أكثر مما مارست الفعل — أسيرة فوبيا فقدان الامتياز. فكلما ارتفع صوت من الجبال أو دارفور أو النيل الأزرق، تذكّرت خرطومها الاستعمارية وقصورها في العمارات والرياض وارتجفت أمام احتمال أن يُعاد كتابة التاريخ من خارج جدرانها. تخاف هذه النخب من العلمانية لأنها تُعرّي هشاشة خطابها الأخلاقي وتُجردها من سلاحها الرمزي الذي طالما استُخدم لتبرير الامتياز باسم الدين أو الوطنية. فالعلمانية لا تهدم الدين، بل تعيده إلى مجاله الطبيعي: مجال الإيمان الفردي لا السلطة العامة. قال جان جاك روسو: "حين يتحول الدين إلى أداة في يد الحاكم، يصبح عبوديةً لا عبادة."
تقول النخب ضمن ماتقول: "الأغلبية في السودان مسلمة، ولها الحق في تحكيم ما تراه بالتصويت، أي الشريعة." لكن هذا منطقٌ مقلوب؛ لأن الديمقراطية لا تُختزل في حكم الأغلبية، بل في حماية حقوق الأقلية من استبدادها. وقد أشار الفيلسوف السياسي جون ستيوارت ميل إلى هذا الخطر في كتابه عن الحرية بقوله: "طغيان الأغلبية لا يقل خطورة عن طغيان الفرد المستبد." فقد استُخدم هذا المنطق ذاته في أوروبا القرون الوسطى لتبرير اضطهاد البروتستانت وغيرهم من الاقليات، وفي الولايات المتحدة لتبرير الفصل العنصري، وفي الهند لتسويغ قومية الأغلبية الهندوسية ضد المسلمين. أما الدول التي تبنّت العلمانية كضمان للمساواة — مثل فرنسا بعد الثورة، والولايات المتحدة بعد استقلالها، والهند بعد الاستعمار البريطاني — فقد أثبتت أن حماية التعدد الديني لا تتم إلا بفصل الدين عن الدولة، لا بدمجه فيها. وكما قال القاضي الأمريكي هوغو بلاك في حكم المحكمة العليا عام 1947: "جدار الفصل بين الكنيسة والدولة هو ما يجعل الحرية الدينية ممكنة للجميع."
أما الحجة الثانية فتقول: "العلمانية تعبير سيئ السمعة لأن الإسلاميين شوهوه." وهنا تنكشف سذاجة الحجة، إذ لو كانت السمعة تكفي لإبطال المفهوم، لوجب أن نتخلى عن العدالة لأن الطغاة رفعوها شعارًا، وعن الحرية لأن المستعمر استخدمها تبريرًا. إنّ سوء السمعة الذي لحق بالمفهوم في السودان ليس عيبًا فيه، بل مرآة لجبن النخب عن الدفاع عنه بوضوح. فحين سُئل المفكر التونسي عبد المجيد الشرفي عن هذا الخوف، قال: "العلمانية لا تعني نفي الدين، بل نفي احتكاره باسم الدولة." أما الحجة الثالثة فتقول: "العلمانية فكر مستورد لا يناسبنا." لكن الحرية والعدالة ليستا اختراعًا جغرافيًا. لم يقل مانديلا في جنوب إفريقيا إن المساواة "مستوردة"، ولا غاندي في الهند إن مقاومة الاستعمار "غربية"، ولا مارتن لوثر كينغ في أمريكا إن الحلم بالحرية "أجنبي". لقد واجهت كل حركة تحرر في التاريخ النغمة ذاتها من نخبها المحافظة: "خصوصيتنا الحضارية لا تسمح بالتغيير." وكأنّ الظلم جزءٌ من الهوية الوطنية! العلمانية ليست نقلاً أعمى من الغرب، بل ثمرةٌ كونية لنضج العقل الإنساني حين أدرك أن العدالة لا تُدار باسم الآلهة، بل باسم البشر المتساوين أمام القانون. هي حصيلة تطور الوعي الإنساني، لا استيراد جغرافي. والمفارقة المضحكة أن من يرفضونها بحجة "الخصوصية" يعتنقون نظاماً تشريعياً لم ينبت في أرضهم أصلًا؛ فالشريعة التي يريدون أن يحكمونا بها لم تولد في جزيرة توتي، بل في الجزيرة العربية، والوحي لم يتنزل على جبل مرّة بل على جبل أُحد، وكان "غار حراء" لا احد كراكير الجبال الشرقية في جنوب كردفان! فإذا كان الاستيراد هو المعيار، فلماذا يُحرَّم على الناس استلهام تجارب العدالة الحديثة، ويُحلّل عليهم استيراد نموذجٍ دينيٍّ وسياسيٍّ غريبٍ عن جغرافيتهم و تاريخهم وثقافتهم؟ إنّ العلمانية، في جوهرها، ليست غربةً عن الذات، بل عودةٌ إلى إنسانيتها الأولى — إلى تلك البصيرة التي تقول إن ما يُنظّم حياة الناس ليس العِصبية، ولا الوحي السياسي، بل الحق في المساواة والاختيار.
أما الحجة الأخيرة فهي الأكثر غموضًا وخداعًا: "المدنية تكفي وتعطي نفس المعنى." لكن كلمة "مدنية" أصبحت مطاطية، تُرضي الجميع لأنها لا تعني شيئًا محددًا. فهي تُستخدم كقناع لغوي للهروب من وضوح المفهوم الذي تمثله العلمانية. كما قال الفيلسوف سلافوي جيجك: "اللغة الوسطية هي التي تسمح للسلطة أن تتكلم بلا أن تقول شيئًا." ولذلك تحتمي النخب السودانية المتواطئة بيمينها ويسارها خلف "المدنية" لأنها تتيح لها أن تبدو تقدمية دون أن تدفع ثمن الوضوح الأخلاقي أو الموقف السياسي. فهي ترفض الاعتراف بأن لا عدالة بلا علمانية، ولا سلام بلا مساواة في المواطنة. لقد أثبتت التجارب أن الأمم التي واجهت هذا السؤال بشجاعة — سؤال العلاقة بين الدين والدولة — هي التي عبرت نحو الديمقراطية الحقيقية وبنت شرعية تقوم على المواطنة لا على العقيدة. ففي فرنسا، حُسم الصراع بين الكنيسة والدولة لصالح المواطنة المتساوية، فانبثق النظام الجمهوري الذي جعل من الحريات العامة قاعدةً للشرعية السياسية. وفي الهند، رفض جواهر لال نهرو فكرة "الدولة الدينية" رغم الأغلبية الهندوسية، مؤكداً أن "العلمانية ليست عداءً للدين، بل ضمانةٌ لتعايش الأديان." وفي الولايات المتحدة، أعلن توماس جيفرسون بوضوح: "إني لا أعتبر اختلاف الرأي في الدين سببًا لحرمان المواطن من حقوقه المدنية." أما في العالم الإسلامي ذاته، فهناك دولٌ ذات أغلبيةٍ مسلمة اختارت العلمانية كإطارٍ للعدالة والمواطنة، ولم تفقد هويتها بل زادتها نضجاً. فـتركيا، منذ إصلاحات أتاتورك، أقامت نظامًا مدنيًا علمانيًا حافظ على توازن الدين والمجتمع لعقود طويلة، وجعل مؤسسات الدولة فوق الانتماء الديني. والسنغال، رغم أن أكثر من ٩٠٪ من سكانها مسلمون، تبنت دستورًا علمانيًا يضمن حرية المعتقد، فصارت من أكثر دول غرب إفريقيا استقرارًا سياسيًا وتسامحًا دينيًا. وألبانيا، التي تقارب فيها نسبة المسلمين ٦٠٪، جعلت من العلمانية حجر الزاوية في دستورها، وكرّست مبدأ "الحياد الإيجابي للدولة تجاه الأديان" كضمانةٍ للسلام الاجتماعي .... هذه النماذج وغيرها تؤكد أن العلمانية ليست نقيض الهوية الدينية، بل شرط نضوجها؛ فهي التي تجعل الدين شأنًا حرًّا لا أداة سلطة، وتجعل العدالة التاريخية ممكنة بوصفها مبدأً إنسانيًا لا امتيازًا فئوياً. أما السودان، فما زالت نُخبه تتردد في الإجابة عن السؤال نفسه، كأنها تخشى أن تنظر في المرآة التي تعكسها العدالة التاريخية، فتجد وجهها الحقيقي: امتيازات موروثة تتنكر في هيئة فضيلة...
في السودان، تتقاطع تيارات قد تبدو متناقضة ولكنها غير ذلك، حيث يتقاطع الإسلاميون والشيوعيون، ومابينهم من تيارات تدّعي الديمقراطية، عند نقطةٍ جوهرية واحدة: الخوف من العلمانية كإطارٍ تأسيسي يُعيد تعريف السلطة والشرعية على أساس المواطنة والمساواة لا على أساس العقيدة أو الأيديولوجيا. فكلا التيارين، وإن اختلفا في الشعارات واللغة، يتّحدان في البنية العميقة التي تخشى زوال السلطة الرمزية التي راكمتها النخب عبر قرنٍ من احتكار المعنى وتبرير الامتياز. الإسلاميون يرفضون العلمانية صراحةً لأنها تُجردهم من "قداسة الخطاب" الذي يبرر امتيازهم باسم الله، أما الشيوعيون ومن لف لفهم — وقد تحوّلوا في الممارسة إلى نخبٍ مركزية قديمة — فيرفضونها ضمنيًا لأن تبنّيها الكامل يعني انهيار أسطورة "الصفوة الثورية" التي نصّبت نفسها وصيةً على الشعب باسم الوعي والتاريخ.
لقد أصبح الطرفان، في الجوهر، حرّاسًا لبنية الدولة المركزية التي تضمن امتيازهم الطبقي والثقافي. فالإسلامي يحتمي بمفهوم "الهوية الدينية"، والشيوعي ومن معه يلوذ بمفردات مثل "الدولة المدنية" أو "الديمقراطية الاجتماعية"، لكن كليهما يسعى إلى الحفاظ على بنية الامتياز القديمة التي تُبقي المركز مركزًا والهامش تابعًا. وكما يذكّرنا أنطونيو غرامشي، "الهيمنة لا تُمارس بالقوة وحدها، بل بالموافقة"، وكلا التيارين نجح في انتزاع هذه الموافقة من المجتمع عبر احتكار الخطاب الوطني اوالعقائدي، وتحويله إلى وسيلة لإعادة إنتاج السيطرة الرمزية ذاتها التي مارستها النخبة الاستعمارية في السابق. ووفقًا لتحليل بيير بورديو، فإن الفاعلين الاجتماعيين — حتى أولئك الذين يرفعون شعار الثورة — يتحركون داخل "حقول المصالح الرمزية"، أي أنهم يسعون للحفاظ على مواقعهم داخل الحقل لا لقلب قواعد اللعبة. من هنا، فإن الإسلاميين والشيوعيين في السودان، كلٌّ بطريقته، يخافون العلمانية لأنها تسحب منهم رأس المال الرمزي الذي يمنحهم سلطة الحديث باسم "الحق" و"العقل" معًا. فالعلمانية لا تهدد الدين ولا الفكر اليساري، بل تهدد الوعي المتعالي للنخبة — ذلك الإحساس المتجذر بأنها وحدها المؤهلة لتفسير العالم وتمثيله نيابةً عن الآخرين.
ومن منظور التحليل النفسي والاجتماعي، يصف سيغموند فرويد هذه الحالة بـ"نرجسية الفروق الصغيرة"، حيث تُضخِّم الجماعات المتشابهة خلافاتها الشكلية لتُخفي تشابهها العميق في نزعتها السلطوية. فالإسلاميون والشيوعيون ومن معهم، رغم عدائهما المعلن، يشتركان في خوفٍ واحد: الخوف من المساواة التامة، لأنها تقتلع الجذر النفسي للهيمنة — ذلك الإحساس بالاستعلاء الأخلاقي أو العقلي الذي يجعلهم يرون أنفسهم أوصياء على "العقل الجمعي" و"المصلحة العليا للأمة". وكما أشار إريك فروم في "الهروب من الحرية"، فإن هذا التفوق الرمزي ليس سوى تعويضٍ عن قلقٍ وجودي أمام الحرية، إذ يخشى الإنسان المسؤولية التي ترافق تحرره، فيلوذ بالأنظمة الشمولية بحثًا عن الأمان في الطاعة. وقد ذهب فرانز فانون أبعد من ذلك، حين رأى أن النخب في المجتمعات ما بعد الاستعمار غالبًا ما تتحول إلى وسيطٍ استعماري جديد، فهي لا تكتفي بتبني لغة المستعمِر أو مؤسساته، بل تُعيد إنتاج علاقات التسلط ذاتها على مواطنيها. هذه النخب، في الحالة السودانية، تمارس الاستعمار الداخلي على الهامش عبر احتكارها الحصري لحق تعريف "الحداثة" و"الوطنية" و"الإيمان"، فتجعل من نفسها معيارًا لما هو مشروع أو عقلاني أو وطني.
من هنا، تبدو العلمانية في نظر النخب السودانية — الإسلامية والماركسية ومابينهما على السواء — تهديدًا وجوديًا لا فكريًا، لا لأنها "غربية وما اليه" كما تدّعي، بل لأنها تُسقط أقنعتها الرمزية وتُجبرها على الانتقال من موقع الوصاية إلى المواطنة، أي من احتكار الحقيقة إلى الخضوع لمنطق التداول الحر للحجة. وكما يقول يورغن هابرماس، فإن “الانتقال من شرعية الإيمان إلى شرعية الحجة هو أعظم ثورات الحداثة”، وهي الثورة التي لم تجرؤ هذه النخب على خوضها بعد، لأنها تُطالِبها بالتخلي عن أدوارها المقدّسة كـ"مفسرين للعقل الجمعي" أو "حرّاس للضمير الوطني." إن العلمانية تُفكّك السردية التي عاشت بها النخب لعقود: سردية التفوق الأخلاقي والثقافي، وتضعها أمام مرآة العدالة التاريخية التي تكشف أن سلطتها — مهما تلوّنت بالشعارات — قامت على إقصاء الآخر وتجميل الامتياز. لذلك، فإن رفض العلمانية في السودان ليس خلافًا فلسفيًا حول الدين أو الهوية، بل هو مقاومة بنيوية ضد المساواة وضد إعادة توزيع القوة والمعنى. إنها معركة النخب مع احتمال فقدان امتيازها، لا مع فكرة الدولة الحديثة ذاتها. فحين تُدار الدولة باسم الإنسان الحر لا باسم العقيدة أو الحزب، تنهار منظومة الهيمنة التي تأسست على التراتب والوصاية. عندها، يصبح الحوار بديلًا عن الإملاء، والمواطنة بديلاً عن الرعاية الأبوية، والاختلاف مصدرًا للشرعية لا ذريعةً للإقصاء... ولهذا، تدرك النخب السودانية تمامًا أن تبنّي العلمانية لا يعني فقط إصلاح النظام السياسي، بل انتهاء دورها التاريخي كطبقةٍ متعالية، ولذلك تقاتل — كلٌّ بلغته وأدواته — لإبقاء الباب مواربًا أمام ماضٍ يرفض أن يُدفن، ومجتمعٍ/ واقع جديدٍ يوشك أن يولد!
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة