في المشهد السوداني الراهن، تتقاطع أزمتان متداخلتان - أزمة السياسة في القصر، وأزمة السلاح في الميدان. ما بين شراكةٍ متصدعة في هياكل الحكم، وفوضى متفشية في مناطق سيطرة الجيش، يبدو الوطن كأنه يعيش حالة تفكك شامل لمفهوم الدولة — من رأسها إلى أطرافها. شراكة السلطان... البغضاء السياسية في ثوبٍ جديد لا يخفى على المراقب أن اتفاق جوبا للسلام لم يؤسس لشراكة متوازنة، بل لشراكة قائمة على المحاصصة والولاءات. فالخطاب الحكومي الذي يتبادل الاتهامات والتهديدات بين شركاء الحكم اليوم ليس سوى امتدادٍ لمنطق “دولة السلطان” لا “سلطان الدولة”. لقد ورثنا عقلية الحاكم الذي يرى في الشركاء تابعين، والشريك الذي يرى في الدولة غنيمة. إن أدبيات الحكم الرشيد، كما سعى إليها فلاسفة السياسة، تقوم على مبدأين: سيادة القانون وتنظيم العلاقة بين مؤسسات الدولة. لكن في السودان، تم تبني أشكال الدولة الحديثة بوجوهٍ قديمة لا تزال تمارس السلطة بعقلية “التمكين”، لا بعقلية “الشراكة الوطنية”. ولذلك، حين يتحدث الساسة بلغة الغضب والانفعال أمام الإعلام، فهم لا يديرون خلافًا سياسيًا، بل يشعلون نار البغضاء في وطنٍ أنهكته الجراح. إنها ليست أزمة خطاب فقط، بل أزمة ثقافة سياسية لم تدرك بعد أن منطق السلاح لا يصلح لإدارة الدولة. الفوضى في الميدان... انهيار احتكار الدولة للعنف في المقابل، يكشف الواقع الميداني في مناطق سيطرة القوات المسلحة عن تفكك أخطر: تفكك احتكار الدولة للعنف. حوادث مثل إطلاق النار داخل المستشفيات، وغياب الانضباط داخل الوحدات، وتراجع بعض التشكيلات القبلية والعسكرية عن القتال، كلها تشير إلى أن الجيش السوداني فقد تماسكه كمؤسسة وطنية. ما كان يُسمى "درع الوطن" أصبح اليوم مجموعة دروع متناحرة، لكلٍ منها ولاؤه ومرجعيته الخاصة. لم تعد المشكلة ضعفًا في القيادة فقط، بل أزمة شرعية وفقدان للقيم العسكرية. عندما يتحول السلاح إلى وسيلة لبسط نفوذ قبيلة أو مجموعة، يفقد الوطن معناه، وتتحول الحرب إلى صراع على الرماد. الفوضى المُدارة... هندسة الانهيار لا منعه قد يظن البعض أن هذه الفوضى ناتجة عن العجز، لكنها في الحقيقة فوضى مُدارة، يُراد بها تحقيق مكاسب سياسية في لحظة ما قبل التسوية. فكلما اتسع نطاق الانفلات الأمني، برزت الحاجة إلى “المنقذ” الذي يعيد النظام. إنها لعبة تُدار بذكاء قاسٍ: تُخلق الفوضى لتبرير استمرار السيطرة، وتُستخدم الصراعات الجانبية لعزل القوى المسلحة من دارفور وإضعاف حضورها في التفاوض.
* الهدف النهائي هو إنتاج مشهدٍ سياسي يُقصي الجميع ما عدا أصحاب النفوذ في الجيش والإسلاميين القدامى، تحت غطاء “استعادة هيبة الدولة”.
بين شراكة القصر وفوضى الميدان ما يجري في الخرطوم والفاشر ليس حدثين منفصلين؛ بل وجهان لأزمة واحدة. ففي القصر، تآكلت الشراكة السياسية وتحولت إلى تنازع سلطات. وفي الميدان، تحللت المؤسسة العسكرية وفقدت وحدة السلاح. والنتيجة واحدة دولة بلا مركز ولا أطراف، تتحرك فيها الولاءات لا المؤسسات. إن من يحكمون اليوم بعقلية “شراكة السلطان” هم أنفسهم من يتركون الميدان للفوضى المُدارة. فمن لا يؤمن بمبدأ الشراكة في السياسة، لن يستطيع بناء شراكة في الأمن. وهكذا تتسع دائرة الانهيار: من مجلس الوزراء إلى المستشفى، ومن المفاوضات إلى خطوط النار. من يربح من خراب الدولة؟ المستفيد الوحيد من هذا الانهيار هو تحالف المال والسلاح والعقيدة القديمة: النخب الإسلامية التي وجدت في الفوضى فرصة للعودة. شبكات الاقتصاد الموازي التي تزدهر في غياب القانون. القيادات العسكرية التي تبرر البقاء في السلطة بحجة “غياب البديل المدني”. إنها طبقة كاملة لا تحيا إلا في غياب الدولة، وتخاف من أي مشروع يعيد سيادتها وهيبتها. نحو وعي جديد بالدولة لقد آن للسودانيين أن يدركوا أن الوطن لا يُبنى بالشتائم السياسية ولا بالبندقية، بل بإرادةٍ جماعية لإعادة تعريف معنى الدولة. الطريق إلى السلام يبدأ من تفكيك منطق السلطان، وبناء جيش وطني موحد خاضع للقانون، لا للأهواء والمصالح. إننا أمام مفترق طرق: إما أن نرتقي إلى مفهوم الدولة الحديثة، أو نستسلم لقدرنا ككيانٍ تُديره القبائل والمليشيات من فوق أنقاض الوطن. نحن اليوم — بصدقٍ مؤلم — نعيش في دولة القبائل والحركات المسلحة والمليشيات الإسلامية، لا في دولة المؤسسات والقانون. فهل من عاقلٍ يدرك خطورة ما نحن فيه قبل أن تبتلعنا الفوضى جميعًا؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة