في قلب غرب السودان، تقف مدينة الفاشر اليوم شاهدةً على واحدة من أكثر فصول الحرب السودانية قسوةً وتعقيدًا. فبعد شهور طويلة من الحصار والقتال، لم يتمكن الجيش السوداني من فك الطوق عن المدينة، كما لم تستطع قوات الدعم السريع إحكام قبضتها عليها. وبين العجزين، تساقط الناس في الشوارع، وتحوّلت الأحياء إلى مقابر مفتوحة، وفقدنا أهلنا وزملاءنا تحت وابل من الرصاص والقذائف.
منذ اندلاع الحرب بين الجيش والدعم السريع، ظلّت الفاشر موقعًا استراتيجيًا ورمزًا للمقاومة والبقاء. لكنها في الوقت نفسه، تحولت إلى مرآة تعكس فشل الطرفين في حماية المدنيين، وإصرارهما على حسم المعركة بالنار. فكل يوم يمرّ يُضاف إلى سجل المدينة مزيد من الدمار والدموع، دون أن يلوح في الأفق أي أمل .
الجيش، رغم سيطرته على بعض الجبهات، لم يتمكن من تأمين طرق الإمداد نحو المدينة، حيث تقطع قوات الدعم السريع الطريق على القوافل الإنسانية والعسكرية على حد سواء. أما الدعم السريع، فرغم تفوقه في الانتشار والمناورة، لم يستطع اقتحام الفاشر بالكامل، إذ واجه مقاومة شرسة من القوات النظامية ومن سكان المدينة الذين يرفضون الخضوع لأي سلطة عسكرية جديدة. وهكذا، أصبحت المدينة محاصَرة، لا تسيطر عليها جهة بالكامل، ولا تجد من يحميها.
في الأحياء الشرقية والجنوبية، يروي الناجون قصصًا موجعة: أسر نزحت من بيتٍ إلى بيت، باحثةً عن مأوى من القصف، وأطفالٌ باتوا بلا مدارس، ونساء فقدن أزواجهن في خطوط النار. حتى المستشفيات لم تسلم، إذ خرج كثير منها عن الخدمة بعد أن نفد الوقود والأدوية، وتحولت إلى ملاجئ مؤقتة للجرحى والمشردين.
وفي خضم هذا الجحيم، تُطوى يوميًا صفحات من حياة شبابٍ وصحفيين وأطباءٍ كانوا يحلمون بمستقبل أفضل. زملاؤنا الذين كنا نعمل معهم لتوثيق الحقيقة، أصبح بعضهم بين المفقودين، وبعضهم قضى تحت القصف أثناء أداء واجبه. لا الجيش حماهم، ولا الدعم السريع احترم حرمة مهنتهم.
الفاشر اليوم ليست فقط مدينة محاصرة؛ إنها رمز لانهيار الدولة السودانية وغياب الضمير الإنساني. إنها صرخة في وجه العالم الصامت، الذي اكتفى ببيانات القلق، وترك شعبًا بأكمله يواجه الموت وحيدًا.
في النهاية، لا أحد سينتصر في هذه الحرب، لأن الدم السوداني هو الخاسر الوحيد. الفاشر لا تحتاج إلى مزيد من البنادق، بل إلى ضمائر حيّة، وإرادة سياسية توقف النزيف. ما نريده ليس من يفك الحصار عسكريًا، بل من يعيد للإنسان السوداني حقه في الحياة الكريمة، بعيدًا عن لغة السلاح والانتقام.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة