في أروقة العدالة الدولية بمدينة لاهاي الهادئة، حيث يفترض أن تصمت أصوات البنادق ليتحدث القانون، دوت إدانة قاسية بحق علي محمد علي عبد الرحمن، المعروف بـ "كوشيب". هذا الرجل، الذي ارتبط اسمه بفظائع لا تُحصى في إقليم دارفور، وجدته المحكمة الجنائية الدولية مذنبا في سبعة وعشرين اتهاما تتراوح بين جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. إنها لحظة تاريخية، نعم، وانتصار جزئي لضحايا طال انتظارهم للعدالة، ولكن مهلا، فقبل أن ترفع القبعات ابتهاجا، دعونا نتوقف قليلا وننظر إلى المشهد الأوسع، الذي يكشف عن حقيقة مرة ومخزية، وهي أن إدانة كوشيب لا تعني شيئا ذا بال، طالما أن كبار المتهمين، مهندسي الفظائع الحقيقيين، ما زالوا ينعمون بالحرية، وبعضهم حتى يتقلدون مناصب السلطة، بينما دماء الأبرياء لم تجف بعد. لقد أعلنت المحكمة الجنائية الدولية في أكتوبر 2025 عن حكمها بحق كوشيب، لتؤكد بذلك تورطه في سلسلة من الجرائم المروعة التي ارتكبت في الفترة من أغسطس 2003 إلى أبريل 2004، في مناطق مثل كتم وبنديسي ومكجر ودليج. هو قائد الجنجويد الذي نفذ أوامر أسياده بلا هوادة، فساهم في عمليات القتل المتعمد، والاغتصاب، والنقل القسري، والاضطهاد، والتعذيب، والمعاملة القاسية، والاعتداء على الكرامة الإنسانية، والشروع في القتل. وقد دانته المحكمة بتهمتي القتل والتعذيب كجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، بالإضافة إلى الاعتداء على الكرامة الشخصية كجريمة حرب، والاضطهاد كجريمة ضد الإنسانية، كما ثبت تورطه، بصفته شريكا مع الجنجويد وقوات الحكومة، في ارتكاب جرائم قتل وتعذيب ضد نحو 200 أسير أو معتقل، ولا ننسى أن المحكمة منحت الضحايا حق المطالبة بجبر الضرر، وهو حق أساسي لكنه غالبا ما يبقى حبرا على ورق في ظل غياب العدالة الشاملة. إن تسليم كوشيب نفسه طواعية إلى سلطات إفريقيا الوسطى في يونيو 2020، ومن ثم نقله إلى المحكمة، كان في حد ذاته مفارقة مريرة. فبينما يمثل هذا الرجل أمام العدالة، وهو مجرد منفذ لسياسات أكبر وأكثر دهاءا، يواصل العشرات من قادة نظامه السابق، وبعضهم من قادة السودان الحاليين، التملص من أي مساءلة. هذا الحكم، وإن كان يمثل إشارة إلى أن يد العدالة الدولية يمكن أن تطال البعض، إلا أنه يظل ناقصا ومجتزأً، إنه أشبه بقطعة أحجية واحدة في لوحة فنية ممزقة، لن تكتمل صورتها إلا بوجود جميع القطع. هنا تكمن العقدة الحقيقية ومصدر الوجع الأكبر، فالمحكمة الجنائية الدولية نفسها لا تزال تطالب بمثول الرئيس السوداني المعزول عمر البشير، المتهم بجرائم إبادة جماعية، وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وهي تهم ترقى إلى مستوى التخطيط والتوجيه للفظائع التي ارتكبها كوشيب وأمثاله. إلى جانب البشير، هناك اثنان من كبار معاونيه، وهما، عبد الرحيم محمد حسين، وزير الدفاع الأسبق، وأحمد هارون، وزير الدولة للشؤون الداخلية الأسبق ووالي جنوب وشمال كردفان، وكلاهما مطلوبان بتهم خطيرة تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. هؤلاء ليسوا مجرد أسماء عابرة، بل هم المهندسون الرئيسيون للحملة الدموية في دارفور، أصحاب القرار والتوجيه، الذين حولوا الإقليم إلى جحيم، فكيف يمكن أن نتحدث عن عدالة حقيقية في حين يواصل هؤلاء حياتهم، إما في سجون محلية صورية أو طلقاء يتحركون بحرية؟ ولكن قائمة المتهمين الكبار لا تتوقف عند هذا الحد، بل تمتد لتشمل أسماء أخرى فاعلة ومؤثرة، سواء في السابق أو في الحاضر، ممن ارتبطت أسماؤهم بالعنف والإفلات من العقاب في السودان. هناك عبد الله بندا، القيادي البارز في حركة العدل والمساواة، المطلوب بتهم ارتكاب جرائم حرب في هجوم على بعثة يوناميد، وهناك أيضا شخصيات مثل الشيخ موسى هلال، أحد أبرز قادة الجنجويد الذين كانوا يتمتعون بنفوذ واسع ودعم حكومي في سنوات الصراع الأولى، والأخطر من ذلك، هو أن دوامة الإفلات من العقاب هذه لم تتوقف مع سقوط نظام البشير، بل استمرت وتجددت مع الصراعات الأخيرة، فكيف يمكن أن نرى عدالة للسودان ورموزه السياسية والعسكرية الحالية، مثل رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان، ونائبه قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو حميرتي، ما زالوا يُنظر إليهم على أنهم متورطون في جرائم فظيعة خلال النزاعات الحالية ومسؤولون عن استمرار دوامة العنف، دون أن يواجهوا أي مساءلة دولية جدية؟ إن هذه الأسماء الكبيرة، من البشير وحسين وهارون إلى البرهان وحميرتي، تمثل جوهر المشكلة. إنهم الفيلة في الغرفة، الذين لا يمكن تجاهلهم عند الحديث عن أي شكل من أشكال العدالة في السودان، إذ إن وجودهم طلقاء، أو تحت وصاية نظام يرفض تسليمهم، هو إهانة للضحايا، ووصمة عار على جبين العدالة الدولية، ورسالة واضحة بأن القوة والسلطة يمكن أن تحصنا المرء من المساءلة، مهما بلغت فظاعة جرائمه. إن ما حدث في دارفور ليس مجرد أحداث عابرة، بل هو نتيجة متراكمة لثقافة عميقة الجذور من الإفلات من العقاب، زرعتها ومارستها الدولة السودانية على مدار عقود. نظام البشير بنى حكمه على القمع، مستخدما الجماعات المسلحة كأدوات لتنفيذ سياساته القمعية، ومانحا إياها حصانة مطلقة من أي مساءلة داخلية. لقد كانت آليات العدالة المحلية معطلة عمدا، والمؤسسات القضائية تحت هيمنة النظام، مما جعل من المستحيل على الضحايا الحصول على أي شكل من أشكال الانصاف داخل بلادهم، وعندما تدخلت المحكمة الجنائية الدولية، قوبلت بصد وتحد سافرين من قبل النظام. لم تكن سياسة الإفلات من العقاب مقتصرة على حماية الأفراد، بل كانت جزءا لا يتجزأ من استراتيجية الدولة لإخفاء الحقائق والتستر على الجرائم. لقد أُعيق عمل منظمات حقوق الإنسان، وقُمعت الأصوات المطالبة بالعدالة، وأُغلق الباب أمام أي تحقيق مستقل. هذا الإفلات من العقاب، الذي سمح لكبار المتهمين بالتنقل بحرية والتفاخر بجرائمهم، هو ما غذى دوامة العنف في السودان، وما أدى في النهاية إلى تجدد الصراعات في أشكال مختلفة، وصولا إلى الحرب الأهلية الراهنة التي تمزق البلاد. إن عدم معالجة الجذور العميقة للظلم والإفلات من العقاب هو وصفة مضمونة لاستمرار العنف وتوالد الفظائع، فهل يمكن لأي مراقب عاقل أن يتوقع سلاما مستداما في بلد لا يعرف قادته معنى المساءلة؟ بالنسبة لملايين الضحايا في دارفور، الذين نزحوا أو قتلوا ذويهم أو تعرضوا للعنف الجنسي والتدمير الممنهج لممتلكاتهم وسبل عيشهم، فإن العدالة تعني أكثر بكثير من مجرد إدانة منفذ واحد. إنها تعني رؤية المهندسين الحقيقيين للفظائع يقفون أمام المحكمة، إنها تعني الحصول على الحقيقة الكاملة حول ما حدث، والاعتراف بمعاناتهم، وضمانات بعدم تكرار هذه الفظائع، إنها تعني استعادة الكرامة التي سُلبت منهم، والتعويض عن الخسائر التي لا تقدر بثمن. إن رؤية كوشيب يُدان، بينما البشير وحسين وهارون، الذين أمروا ودبروا ونفذوا سياسات الإبادة، لا يزالون بعيدا عن متناول العدالة الدولية، هو أمر يسبب إحباطا عميقا ويعزز الشعور بالظلم. إنه يبعث برسالة مفادها أن العدالة يمكن أن تكون انتقائية، وأنها قد لا تطال الأقوياء، مما يجدد الجراح ويطيل أمد المعاناة النفسية للضحايا. فكيف يمكن أن تشفى أمة جراحها، وقد تُرك كبار جلاديها خارج قفص الاتهام، بل إن بعضهم ما زال يحكم ويسيطر؟ لا يمكن إنكار الدور الحيوي الذي تلعبه المحكمة الجنائية الدولية في السعي لتحقيق العدالة لضحايا الجرائم الدولية. لقد عملت المحكمة بلا كلل، رغم التحديات الهائلة، لتوفير بارقة أمل للمنتهكة حقوقهم، وأن إدانة كوشيب هي دليل على التزامها هذا، ومع ذلك، فإن فعالية المحكمة تعتمد بشكل كبير على تعاون الدول الأعضاء، وخاصة الدول التي يقع فيها المتهمون، إذ وفي حالة السودان، أظهر النظام السابق، ولاحقا بعض الفاعلين في الأنظمة الانتقالية، مقاومة شرسة للامتثال لقرارات المحكمة. إن غياب التعاون هذا، بالإضافة إلى التعقيدات السياسية في المشهد السوداني، يضعف من قدرة المحكمة على تحقيق العدالة الشاملة، لأنه إذا لم يتمكن أكبر متهمي دارفور من المثول أمام المحكمة، فما الرسالة التي يبعثها ذلك إلى العالم؟ إنها رسالة خطيرة مفادها أن القوة يمكن أن تتغلب على القانون، وأن بعض الأفراد هم فوق المساءلة، مما يفتح الباب أمام المزيد من الفظائع في المستقبل. إنها تمثل نكسة للعدالة الدولية نفسها، التي تسعى إلى إنهاء عصر الإفلات من العقاب. وبينما تُسدَل الستار على مسرحية محاكمة كوشيب، في لاهاي، وتُرفع الأيادي لتصفق لإدانة جلاد واحد، يجب ألا ننخدع بهذا المشهد الزائف. إنها ليست عدالة، بل مهزلة مُتقنة، قُدِّمت للعالم كتسوية مبتورة، بينما تواصل دماء السودانيين الأبرياء النزف، وصيحات ضحايا دارفور تُخنق في غياهب النسيان، إذ كيف لنا أن نحتفل بقطرة عدل في محيط من الظلم الذي لا يزال يبتلع السودان؟ ليست المشكلة في إدانة كوشيب بحد ذاتها، بل في كونها ستارا دخانيا كثيفا يغطي على الحقيقة المُرعبة، وهي أن عرّابي الدمار الحقيقيين، مهندسي الإبادة والفساد، من عمر البشير وعبد الرحيم حسين وأحمد هارون، وصولا إلى مهندسي الفوضى الحاليين، عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميرتي)، ما زالوا يرقصون فوق أشلاء الوطن، متحررين من أي قيد، محصّنين بسلطتهم ودمائهم. هذه ليست عدالة، بل وصمة عار على جبين المجتمع الدولي، ورسالة واضحة بأن القوة وحدها هي من تمنح الحصانة، وتُخرس صوت القانون. إن صمت المحكمة الدولية أمام إفلات هذه الرؤوس الفاسدة، وتباطؤها غير المبرر في جلبهم للعدالة، هو طعنة غادرة في قلب كل ضحية. إنها ليست مجرد إدانة ناقصة، بل هي إعلان ضمني أن السودان محكوم عليه بدوامة العنف، فما دامت الأيادي التي أشعلت النار في دارفور، وفي كل بقعة من السودان، طليقة، وما دامت قياداتها تُمنح الشرعية تلو الأخرى، فليستعد السودان لمزيد من الدماء والجراح، فلا تتوقعوا سلاما، ولا عدالة، ولا حتى نهاية لهذا الكابوس المروّع، طالما أن الفيلة لا تزال تتجول بحرية في غرفة العدالة، بينما يُضحى بمن هم أقل شأنا كقرابين لتهدئة الضمير العالمي الزائف.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة