هدم كبرون "عشوائيات" المهمشين: هل يجرؤ على هدم "عشوائيات النخب"؟ عندما يُهدَم البيت باسم الأمن: في الرد على خطاب وزير الدفاع السوداني حسن كبرون
6/10/2025 خالد كودي، بوسطن
مقدمة: كبرون كواجهة رمزية لسياسات قديمة: في تسجيل صوتي ردًا على مقالي المنشور بتاريخ 2 أكتوبر 2025 بعنوان "كبرون: واجهة ترميزية تُستخدم لتجريف ما تبقى من كرامة المهمّشين في العاصمة القومية"، صوّر وزير الدفاع السوداني الفريق أول حسن كبرون الأحياء الفقيرة في اطراف الخرطوم، وماسماها بالعشوائية او ما تسمي بالأحزمة السوداء كتهديد أمني شامل. كرر كبرون مزاعم أن هذه الأحياء مأوى للأجانب، والمجرمين، و"المتعاونين مع التمرد من الحواضن الاجتماعية للدعم السريع"، وأن الدولة ستُرجع الأجانب إلى دولهم، وتقبض على المجرمين، وتعوض المواطنين "المستحقين". في الظاهر يبدو الخطاب عقلانيًا ومنظمًا، لكنه في جوهره يعيد إنتاج بنية طويلة الأمد من سياسات التهميش البنيوي والعنصرية الحضرية التي استخدمت التخطيط العمراني كغطاء لتصفية وجود الفقراء والمهمشين من عاصمة وطنهم القومية. النتيجة هي أمن زائف وعدالة غائبة، حيث تُختزل الدولة في سلطة تُهدّم ولا تبني.
تحليل الخطاب: الأمن القومي كسردية لإعادة إنتاج الإقصاء: أهم ما قاله كبرون: - إن العشوائيات أصبحت مهددًا أمنيًا بعد الحرب، مأوى لمقاتلين سابقين مع الدعم السريع و"كل قبائل إفريقيا وخريجي السجون." - إن الحكومة ستعوض المواطنين المستحقين وتُرجع الأجانب إلى دولهم وتقبض على المجرمين. - إن فرض هيبة الدولة يستوجب إزالة هذه الأحياء "من جذورها." - اتهامه للمنتقدين بأنهم "ضد الدولة ولا يريدون السودان أن يمضي إلى الأمام." هذا الخطاب يختزل الأمن القومي في صورة ضيقة تربط الفقر بالمجرمين، والمهمشين بالتهديد الأمني. في المقابل، الدراسات الحديثة في التخطيط الحضري والأمن القومي (مثل أعمال ديفيد هارفي وهنري لوفيفر) تؤكد أن العدالة المكانية هي الشرط الأول للأمن القومي، وأن قمع الفقراء يخلق بيئات هشّة وانفجارات اجتماعية بدل الاستقرار.
مهام وزير الدفاع وحدود دوره: وظيفة وزارة الدفاع هي حماية الوطن من التهديدات الاستراتيجية الحقيقية: السيادة الوطنية، الموارد الحيوية، البنى التحتية الأساسية، البيئة الاستراتيجية. ليست مهمة وزير الدفاع توجيه خطاب كراهية أو تجريم فقراء المدن، بل التنسيق مع وزارات التخطيط العمراني والداخلية والعدل لوضع سياسات تحترم حقوق الإنسان وتخدم الأمن القومي المستدام.
أولًا: التخطيط الحضري ليس غطاءً للهدم – بل اختبار للعدالة المكانية: حتى إذا سلّمنا – على سبيل الجدل – بصحة ما ادعاه وزير الدفاع حسن كبرون حول وجود "أجانب ومجرمين ومتعاونين مع التمرد" في الأحياء المستهدفة بالإزالة، فإن مقتضيات المسؤولية الأخلاقية والقانونية والإدارية تفرض إجراءات محددة قبل أي عملية هدم: إجراء مسح اجتماعي دقيق، وتحديد المستحقين للسكن، وضمان التعويض العادل والشفاف، وتوفير بدائل مأمونة للسكن اللائق للمواطنين، ومدارس لا بناءهم وبقية الخدمات أولا- قبل التجريف. فالتخطيط الحضري، وفقًا للمعايير الدولية والإنسانية، لا يُمارس بوصفه فعلًا عقابيًا جماعيا، بل بوصفه أداة لإحقاق العدالة المكانية والاجتماعية. وبالاستناد إلى نظرية "الحق في المدينة" (Le Droit à la Ville) التي صاغها الفيلسوف الفرنسي هنري لوفيفر، فإن الحق في السكن لا يُختزل في الإيواء المادي، بل هو حق سياسي وجغرافي وثقافي يعبّر عن مشاركة المواطنين في إنتاج فضائهم القومي الحضري. ومن ثمّ، فإن هدم مساكن الفقراء والنازحين دون بدائل ليس "تنظيمًا عمرانيًا"، بل فعل قمع رمزي وهيمنة اثنية وطبقية يعيد إنتاج الإقصاء الاجتماعي عبر أدوات تبدو إدارية او حتي امنية. فحيثما تُوظَّف الجرافات بدل سياسات العدالة، يتحول التخطيط من ممارسة هندسية إلى منظومة قسرية لتطهير المدينة من غير المرغوب فيهم، أي من أولئك الذين يشهد وجودهم على عجز الدولة عن بناء عدالة عمرانية حقيقية.
ثانيًا: الأمن القومي لا يُقاس بارتفاع الجدران، بل بارتفاع الكرامة: إن ربط "العشوائيات" بالتهديد الأمني – كما جاء في خطاب كبرون وسلوكه – ليس جديدًا؛ فهو امتداد مباشر لخطابات استعمارية قديمة كانت ترى في سكان الأحياء الفقيرة مصدرًا للفوضى والمرض والتمرد، لا كضحايا للسياسات العنصرية و الطبقية. هذا المنظور يُعيد صياغة العلاقة بين السلطة والمكان بوصفها علاقة مراقبة وعقاب، لا علاقة رعاية وعدالة. غير أن الدراسات الحديثة في الأمن الحضري والتنمية المستدامة – من بينها أعمال ديفيد هارفي وإدوارد سوجا – تُثبت أن الخطر الحقيقي على الأمن القومي لا يأتي من "الهامش" هكذا، بل من اللامساواة البنيوية التي تولّد الإقصاء والفقر والحرمان المستمر. فحين تُهدم منازل البسطاء دون تعويض، ويُترك الأطفال بلا تعليم، والمجتمعات بلا خدمات، تتصدّع شرعية الدولة من داخلها، لا من حدودها! لقد أثبتت تجارب مدنٍ كبرى مثل كيب تاون ونيودلهي وساو باولو أن التهميش الحضري لا يبقى في الأطراف، بل يتحول إلى تهديد بنيوي للأمن والاستقرار الاجتماعي، إذ يولّد شبكات اقتصادية موازية، ويغذي مشاعر الغبن والاغتراب. الأمن الحقيقي لا يبدأ من نشر الجرافات، بل من بناء الكرامة؛ فحماية الوطن لا تعني تجريف بيوته، بل ترميم الثقة بين المواطن والدولة عبر ضمان العدالة السكنية والمكانية دون الالتفات الي الانتماءات السياسية او العقائدية، ودون الالتفات الي الاثنية او النوع.
ثالثًا: الفساد في التخطيط لا يسكن الأحزمة السوداء – بل في قلب الخرطوم: المفارقة الفاضحة في خطاب وزير الدفاع حسن كبرون تكمن في تجاهله التام للفساد الحقيقي الذي نهش بنية التخطيط العمراني في السودان لعقود. فالعشوائيات الحقيقية ليست تلك الأكواخ الطينية البسيطة في أطراف المدن، بل العشوائيات المحمية بالسلطة: الأبراج والفلل المشيّدة على ضفاف النيل دون منطق اوتصديق، والمجمعات التجارية في قلب الخرطوم التي بُنيت على أراضٍ عامة بيعت في مزادات مغلقة باتفه الاثمان لصالح نافذي النظام السابق خلال عقدَي التسعينيات والألفية الجديدة والي يومنا هذا! منذ عام 1992، مع تطبيق سياسات التحرير الاقتصادي التي أعلنها نظام الإنقاذ، شهد السودان موجة خصخصة غير مسبوقة للأراضي العامة. فقد تم بيع مساحات من أملاك الدولة ومؤسسات القطاع العام — بما فيها مزارع حكومية ومناطق نيلية وزراعية — لصالح شركات يملكها مسؤولون أو واجهات مالية تابعة للحركة الإسلامية. وفي عام 2006، على سبيل المثال، كشفت تقارير مسربة للمراجع العام أن وزارة الاستثمار منحت تصاديق استثمارية في مناطق محظورة بيئيًا، منها أجزاء من حرم النيل الأزرق والأبيض، دون أي دراسة تقييم بيئي أو استيفاء لشروط التخطيط(تقارير ، 2006) وفي عام 2013، اندلع جدل واسع حول مشروع "كافوري 3" وبيع أجزاء من حرم النيل في بري والمعمورة لشركات خاصة، رغم أن قانون التخطيط العمراني لسنة 1994 يحظر البناء داخل الحرم النهري لمسافة لا تقل عن خمسين مترًا من ضفة النيل، استنادًا إلى مبدأ حماية "المجال العام" بوصفه ملكًا للشعب. ومع ذلك، تحوّل النيل إلى ملكية حصرية للنخب السياسية والمالية، بينما تُزال مساكن الفقراء بحجة "استعادة هيبة الدولة"! تُظهر صور الأقمار الصناعية بين عامي 2000 و2018 (وفق دراسة معهد الموارد العالمية) – WRI, Urban Expansion in Khartoum, 2019) أن التمدد العمراني على ضفاف النيل الأبيض تضاعف بنسبة 120%، معظمها في مناطق مملوكة لشخصيات من النظام السابق أو مستثمرين أجانب حصلوا على امتيازات خاصة. هذا التمدد لم يكن مجرد توسع عمراني، بل تهديد مباشر للأمن المائي والبيئي، إذ أدى إلى إغلاق منافذ تصريف الفيضان وتآكل السواحل النهرية، ما تسبب في فيضانات مدمرة في أعوام 2013 و2020، حيث غمرت المياه مناطق واسعة من شرق النيل كانت قد بُنيت دون التزام بحدود الفيضان. إن التشييد على ضفاف النيل دون احترام القوانين التخطيطية والبيئية لا يُعدّ فقط جريمة عمرانية، بل اعتداءً على السيادة الوطنية وخرقًا لالتزامات السودان الدولية بموجب اتفاقية الأمم المتحدة بشأن استخدام المجاري المائية في الأغراض غير الملاحية (1997)، والتي تنص في مادتها السابعة على "واجب الدولة في اتخاذ جميع التدابير المعقولة لمنع التسبب بضرر ذي شأن للدول المشاطئة أو للبيئة المشتركة". فكيف يُبرَّر هدم أكواخ الفقراء باسم الأمن القومي، بينما يُغضّ الطرف عن قصورٍ تُقام داخل مناطق فيضان تُهدد حياة الآلاف سنويًا؟
من الاستعمار إلى التهميش البنيوي: تاريخ الخرائط العنصرية في السودان: لا اعتقد ان حسن كبرون يدرك ان التخطيط العمراني في السودان منذ الاستقلال عام 1956 لم يكن مشروعًا لتحسين نوعية الحياة، بل أداة سياسية لإعادة إنتاج التراتبية العرقية والطبقية التي ورثها السودان عن الإدارة الاستعمارية البريطانية–المصرية. ففي مخطط الخرطوم 1947، وضعت الإدارة البريطانية الأسس الأولى لتقسيم المدينة إلى "مناطق أوروبية" و"مناطق للسود"، وهو ما أورث نموذجًا حضريًا يقوم على الفصل المكاني، الاثني والطبقي. بعد الاستقلال، لم تُحدث الدولة الوطنية قطيعة مع هذا الإرث، بل أعادت إنتاجه في شكل جديد عبر "دولنة" الامتياز الطبقي والثقافي للنخبة الخرطومية. فتمّ تكريس المركز كمجال للصفوة والنقاء الرمزي، مقابل الأطراف كمجال للفائض الديموغرافي والعنف والعشوائية. وبحلول السبعينيات، ومع إنشاء الخطة الهيكلية للخرطوم (1974–1979)، تم تثبيت الحدود الطبقية–الإثنية للمدينة، حيث رُوّج لفكرة "المناطق المنظمة" مقابل "العشوائية"، لتصبح تلك الثنائية أساسًا للتمييز الاجتماعي والعرقي. وفي عهد الإنقاذ (1989–2019)، بلغ هذا الانقسام ذروته، إذ تحوّلت الخرائط الحضرية إلى خرائط أيديولوجية. فبينما وُصِف سكان أطراف الخرطوم – من دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق – بأنهم "غُزاة حضريون" أو "وافدون"، أُعيد إنتاج خطاب نزع الشرعية عن وجودهم في المدينة. وتمّ تنفيذ عشرات الإزالات القسرية، أبرزها حملة إزالة الحاج يوسف (2008) وإزالة دار السلام ومانديلا (2010)، التي شردت آلاف الأسر دون تعويض، في انتهاك مباشر للمادة (11) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تضمن الحق في السكن الملائم. إن هذه السياسات ليست مجرد تجاوزات، بل منظومة هيمنة عمرانية تمارس فيها الدولة الفرز الاجتماعي والجهوي تحت غطاء القانون. وكما بيّن الجغرافي نيل سميث في تحليله لنظرية الإزاحة الحضرية، فإن "الإقصاء المكاني ليس عرضًا للفوضى، بل أداة لإنتاج الفقر وإدامة السيطرة الطبقية" (Neil Smith, The New Urban Frontier, 1996) وهذا بالضبط ما يفسر استمرار حكومة بورتسودان اليوم في إعادة إنتاج التخطيط كعقيدة سلطوية: قمع الهامش باسم التنظيم، وتبرير الهدم بوصفه أمنًا قوميًّا، وكبرون من ينفذ!
من "مدينة النخب على النيل" إلى "الهامش في الصفيح"! حين تُهدم مساكن المهمشين بدعوى "استعادة النظام"، وتُحمى القصور على النيل باسم "الاستثمار"، فإننا لا نعيش أزمة تخطيط، بل أزمة أخلاقية ودستورية في تعريف الدولة ذاتها. فالدولة التي لا تجرؤ على محاسبة من اعتدى على المجال العام لا تملك شرعية في هدم بيوت الفقراء. الأخطر أن هذه الازدواجية أسست لمدينة منقسمة بين من يملكون الحق في المنظر والماء والهواء، ومن يُقصون منها كغرباء. وهنا يبرز السؤال الجوهري: هل يملك كبرون الشجاعة السياسية ليهدم قصور النيل قبل أكواخ الحزام الأسود؟ هل يملك السلطة ليقرر ابعد من تجريف بيوت الطين؟ إن الدفاع الحقيقي ياحسن كبرون عن الأمن القومي يبدأ من هدم امتيازات الفساد لا من تجريف بيوت المقهورين. فكما أن التخطيط الحضري يُعد مقياسًا للعدالة، فإن تجاهله يصبح مقياسًا للظلم المؤسسي نفسه
رابعًا: كبرون كرمز لا كاستثناء: تصريحات وزير الدفاع حسن كبرون ليست زلّة لسان، بل انعكاس بنيوي لعقل الدولة التي ورثت أدوات الاستعمار دون روحه القانونية، فحوّلت التخطيط إلى جهاز ضبط اجتماعي لا إلى وسيلة للعدالة. كبرون ليس سوى رمز لسلطة تخاف من الفقراء أكثر مما تخاف من الفساد؛ عقل يرى في سكان الأكواخ تهديدًا أمنيًا، ولا يرى في الاستيلاء على النيل والموارد جريمة وطنية. من الناحية التحليلية، يمثل كبرون استمرارًا لنمط السلطة الذي وصفه ميشيل فوكو حين قال: "الدولة لا تطارد الجريمة، بل تُعيد إنتاجها عبر تصنيف بعض الأفعال كجرائم وتبرئة أخرى." وهكذا تُجرَّم مساكن البسطاء، وتُشرعن قصور النخب. ولأن الفساد في السودان ليس انحرافًا بل آلية حاكمة، فإن كبرون لا يستطيع – ولن يستطيع – أن يزيل البنايات المخالفة في كافوري، والرياض، والمنشية، حيث شُيّدت الفلل والمجمعات في أراضي الدولة الزراعية والنيلية دون شرعية قانونية او بيئية. ففي عام 2018، أصدرت هيئة الأراضي بولاية الخرطوم تقريرًا يفيد بأن أكثر من 60% من التصاديق السكنية والتجارية في تلك المناطق جرى منحها بطرق غير قانونية، بعضها بأوامر مباشرة من الرئاسة【تقرير لجنة مراجعة التصرف في الأراضي، الخرطوم 2018】. ومع ذلك، لم يُحاسَب أحد، بل استُخدمت لغة "السيادة والأمن" لتغطية نهب المجال العام. ضعف كبرون ليس شخصيًا، بل بنيوي؛ فهو نتاج دولة مفصّلة على مقاس الامتيازات، حيث يصبح الوزير جريئًا فقط حين يواجه الفقراء، وعاجزًا حين يواجه مافيا النخب العقارية والسياسية. إن سلطته لا تتجاوز أطراف المدينة، حيث يسهل الهدم، ويصعب الحساب.
خامسًا: دعوة إلى أبناء الهامش – من الهدم إلى التنظيم: إن أكثر ما يثير الألم أن كثيرًا من سكان الأحياء التي تُزال اليوم هم أنفسهم جنود وضباط صف في الجيش الذي يقوده كبرون. يواجهون الموت في الجبهات دفاعًا عن وطنٍ لا يضمن لهم الحياة، وعن دولةٍ تهدم منازلهم في غيابهم. إنهم الجنود الذين بلا عناوين: يُستدعون للحرب ولا يُعترف بهم في السلم، يُقاتلون تحت علم الدولة التي تعتبرهم فائضًا سكانيًا يجب تنظيمه أو إقصاؤه. لقد آن لهذه المفارقة أن تنكسر. آن لأبناء الهامش، في المدن كما في الريف، في المؤسسات النظامية كما في المجتمع المدني، أن يدركوا أن العدالة تبدأ من الأرض — من الحق في السكن، والتعليم، والخدمات، والتمثيل. الدولة التي لا تضمن لك موطئ قدم لن تحفظ لك كرامة في ميدان القتال. إن التنظيم ، القائم على الوعي بحقوق المواطنة، هو المعركة الحقيقية ضد عقل الدولة الإقصائي، لا ضد الدولة ذاتها وحسب. فالدولة تُستعاد حين يُستعاد معناها الأخلاقي، وحين يُعاد رسم الخرائط بالعدالة لا بالقهر.
خاتمة: لا عدالة بدون عدالة عمرانية: إن ما يجري اليوم ليس مجرد تنفيذ لسياسات تنظيم المدن، بل إعادة إنتاج لمشروع السيطرة عبر العمران. فالدولة التي تهدم مساكن الفقراء دون بدائل، وتحمي المعتدين على الأرض العامة، وتنزع عن الهامش شرعية الوجود، ليست دولة قانون، بل جهاز فرز طبقي–عرقي. في ضوء ذلك، تصبح العدالة العمرانية — كما حدّدها ديفيد هارفي في كتابه “العدالة الاجتماعية والمدينة" (1973) — معيارًا لقياس تحضّر الدول. إذ لا يُقاس نجاح التخطيط بمستوى الانضباط، بل بمدى توزيع الموارد والفرص بشكل عادل في الفضاء الحضري. ووفقًا لدراسة البنك الدولي عام 2021 (Urban Inequality in Sub- Saharan Africa) فإن السياسات التي تُقصي الفقراء من المدن تؤدي إلى زيادة احتمالية النزاع المسلح بنسبة 35% خلال عشر سنوات، لأن الظلم المكاني يولّد هشاشة اجتماعية وأمنية مستدامة. من هذا المنظور، فإن خطاب كبرون حول "الأمن القومي"، وان كان لايدري مايقول، ليس إلا قناعًا أيديولوجيًا يخفي انهيار مفهوم الدولة الحديثة في السودان، دولة لم تستطع أن تفصل بين الأمن والكرامة، بين السلطة والخدمة، بين الخرائط والمواطنة. لقد أثبت علم التخطيط الحضري المعاصر – من تجارب كيب تاون وساو باولو إلى نيروبي – أن الدولة التي تُخضع المدينة لمنطق الأمن بدل العدالة، تفقد السيطرة على الاثنين معًا. فحيثما يُهدم البيت الفقير، تُهدم شرعية الدولة. إن إعادة تأسيس السودان الجديد تبدأ من إعادة تعريف المجال العام: - الأرض كحق لا امتياز، - السكن كضمان للكرامة، - التخطيط كأداة للتحرر، - والمدينة كوطن يتسع لا كخندق يُقصي. ولذلك، فإن كبرون ليس سوى صوتٍ من الماضي، من زمن الخرائط المنفذة للإقصاء والنخب المتغولة. أما المستقبل، فهو لأولئك الذين يعيدون رسم المدينة بالحق، لا بالجرافة. إن السودان لن يُبنى من الخراب، بل من عدالة عمرانية جذرية، تجعل من التخطيط ميثاقًا أخلاقيًا، ومن المدينة ساحة مواطنة، لا ساحة قمع.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة