فشلت مساعي مصر في الماضي في الحصول على منصب المدير العام لليونسكو، ليس فقط بسبب التوازنات السياسية داخل المنظمة، بل أيضًا لأن العالم كان يدرك أن الخطاب الثقافي المصري ظلّ مثقلًا بتاريخٍ من التزييف المتعمّد للهوية النوبية، وتجاهلٍ ممنهجٍ لحقيقة التنوع الحضاري على ضفاف النيل.
ومن هنا، فإن ترحيبنا باختيار المدير العام الجديد من مصر يعتمد على أن تكون القاهرة قد تجاوزت فعلًا مراحل تزوير التاريخ النوبي، وتصالحت مع جذورها الإفريقية، ذلك السبب الجوهري الذي فشلت بسببه محاولاتها السابقة في إقناع العالم بعدالة تمثيلها للثقافة الإنسانية.
لقد كانت محاولات مصر السابقة للحصول على هذا المنصب تعبيرًا عن طموحٍ هيمنيٍّ لا ثقافيّ، إذ سعت الدولة لتسويق نفسها بوصفها “قلب الحضارة الإنسانية” بينما كانت تمارس، في الوقت ذاته، أشد أنواع التعتيم على الحضارة النوبية والسودانية القديمة، من خلال السياسات التعليمية والمتحفية والإعلامية. فالمتاحف المصرية داخل البلاد وخارجها ما زالت حتى اليوم تعرض آثار النوبة ضمن “الهوية المصرية” دون اعتراف بخصوصيتها اللغوية والتاريخية، بل وتُقدّمها كملحقٍ في الهامش الفرعوني لا ككيان حضاري قائم بذاته.
منذ وقبل فوز المرشح المصري البروفيسور خالد العناني بمنصب المدير العام لليونسكو، كان واضحًا أن القضية النوبية ستعود إلى الواجهة — لا من باب الاعتراف، بل من باب الخوف المشروع من إعادة إنتاج سردية الهيمنة الثقافية المصرية التي ظلت عقودًا طويلة تسعى إلى طمس الذاكرة النوبية وإعادة صياغتها داخل إطار “التاريخ المصري الموحّد”.
فمصر الرسمية، منذ الخمسينيات، ارتكبت عبر مشروع السد العالي وما تبعه من سدود أخرى، أكبر جريمة ثقافية في القرن العشرين، حين أغرقت آلاف المواقع الأثرية النوبية، وهجّرت أهلها قسرًا، ودفنت تحت مياه بحيرة ناصر تاريخًا كاملاً من النحت واللغة والعمارة. لم يكن ذلك خطأً هندسيًا، بل قرارًا سياسيًا لإلغاء هويةٍ أصيلةٍ كانت تذكّر الدولة بحدودها الإفريقية وجذورها السوداء.
ورغم أن العالم قد تنبّه تدريجيًا لتلك الكارثة، فإن المتاحف المصرية داخل وخارج البلاد ما زالت حتى اليوم تقدّم الآثار النوبية ضمن “الهوية المصرية الفرعونية”، في عملية تزييف ممنهجة تُفرغ النوبة من خصوصيتها الحضارية، وتقدّمها كذيلٍ ثقافي تابع للمركز.
إن فوز مرشح مصري برئاسة اليونسكو يفرض على المجتمع الدولي مراقبة دقيقة ومسؤولة، حتى لا يتحول هذا المنصب الأممي إلى أداة جديدة لترويج “الحلم المصري” في احتكار الحضارة ودفن الوثائق النوبية التي نجت من الغرق. ولحسن الحظ، فإن معظم الاكتشافات والمخطوطات والخرائط الأثرية النوبية باتت مؤرشفة رقميًا ومحفوظة عالميًا، مما يصعّب محوها أو تزويرها كما حدث في الماضي.
لكن الخطر قائم في أن يُطلق المدير العام الجديد برامج تأويلية ناعمة تزرع الشكوك حول أصول الحضارة النوبية أو تسعى لإعادة دمجها قسرًا في السردية المركزية، تحت شعار “التاريخ المشترك”. ومن هنا فإن دعم الباحثين والمراكز النوبية المستقلة، وتفعيل الرقابة العلمية والحقوقية داخل اليونسكو، هو الضمان الوحيد لبقاء الحقيقة حية.
إن فوز البروفيسور خالد العناني اليوم يُمثّل لحظة انتصار دبلوماسية لمصر، لكنه أيضًا امتحان أخلاقي وتاريخي لمدى قدرتها على التحوّل من دولةٍ محتكرةٍ للرواية إلى شريكٍ في حماية الذاكرة الإنسانية. فالعالم لا يحتاج إلى مزيدٍ من الخطابات الاستعلائية، بل إلى مصداقيةٍ علميةٍ تحترم التعدد الثقافي وتُعيد الاعتبار للشعوب التي سُرقت منها ذاكرتها باسم الحضارة.
فمنذ وقبل هذا الفوز، كانت النوبة — ولا تزال — ضمير التاريخ الإفريقي، شاهدةً على أن الحضارة لا تُمحى بالماء، ولا تُكتب بيد المنتصرين
📘 ملحق ضمن *الكتاب التأسيسي عن علاقة مصر بالسودان* يُدرج هذا المقال ضمن الفصول التكميلية في الكتاب التأسيسي عن علاقة مصر بالسودان، الذي تقوم بإعداده مجموعة من المختصين في التاريخ والسياسة والثقافة الإفريقية، بوصفه توثيقًا وتحليلًا لحالة تسييس الثقافة والهوية في الفضاء المصري-النوبي، ولما تمثله اليونسكو اليوم من ساحة اختبار بين حماية الذاكرة الإنسانية ومحاولات إعادة هندستها. ويأتي هذا ضمن المشروع الفكري والسياسي الموسوم بـ «ما بعد العروبة: العرب، مصر، وأفريقيا الجديدة»، الذي يسعى إلى تفكيك البنية الذهنية التي جعلت من وادي النيل مسرحًا لصراعٍ بين الذاكرة والإلغاء، وبين الجنوب الحيّ والشمال المتعالي.
أحمد التيجاني سيد أحمد قيادي ومؤسس في تحالف تأسيس ٧أكتوبر ٢٠٢٥ روما ايطاليا
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة