شق عليّ وعلى الجيل يمر في يناير القادم، سنة الاستفتاء، واحد وثمانون عاماً على إعلان سياسة الجنوب ( 25 يناير 1930). وهي سياسة وضعها ماكمايكل، السكرتير الإداري، لإدارة الجنوب ليس بمعزل عن الشمال فحسب، بل بتربص يمنع تسرب أي أثر شمالي من إسلام أو عربية إليه. والسبيل إلى ذلك خلق وحدات قبلية وعرقية على أعراف الأهالي المحلية بتشجيع للمسيحية واللغة الإنجليزية. وسيأتي الوقت الذي يقرر فيه الجنوب انضمامه إلى شرق أفريقيا. ومتى وقع الانفصال في يناير القادم نكون نكصنا بأعقابنا إلى 1930.والزمرناه لله. ولست استرجع الذكرى في مقام اللوم. ولا أستثني من إسقاط اللوم حتى ماكمايكل. فهو لم يكن يؤثر الجنوب بشيء. فقد كان "شمالياً" بحتاً لا شلخ عليه. لا يرغب أن تستوقفه "مملكة القرود" في الجنوب، قالها للأسف، وتضيع وقته. ولكن أحببت للقارئ أن يقف على منطق قديم لفصل الجنوب في 1930 ليرى إن كان أياً منا قد تحسب له وتوقاه بورع وطني. وأعرض عليه أدناه مذكرة "تفسيرية" لسياسة الفصل كتبها ماكمايكل عام 1928 واستصحبها في سياسة فصل الجنوب لاحقاً. كتب ماكمايكل: المسألة هي: هل نشجع اللغة العربية في الجنوب كلغة تخاطب ووسيط بين الحاكمين والمحكومين أم نقاوم ذلك على أسس سياسية. فنشرها خطة غير راجحة أساساً وتبدو مقاومتها هي المطلوب الصحيح لسياستنا . . . فديانة المسلمين هي ثمرة 13 قرن من الضبط والتنطع. ويبدو أنها قد بلغت الآن، وعلى النطاق العالمي، مرحلة من الجمود لا توقظها من سباتها سوى نوبات من القلق أحياناً. فليس في الإسلام حرية للعقل أو الضمير ولا مستقبل فكري لأهله إلا عن طريق الزندقة. ولكنه صح مع ذلك القول بأن الإسلام أرفع مقاماً نسبياً من ديانات الزنج التي تعذر نموها بالنظر إلى قدمه وانتشاره وتبنيه للعقائد التوحيدية القديمة وشرائعها الخلقية. . . وبالنظر إلى درجة الحضارة النسبية للمسلمين. ولكن ثقافة المسلمين عقيم مهما قلنا عنها. وسنسيئ خدمة الزنج إساءة كبرى متى فتحنا لهم، ونحن بصدد تنشئتهم سلماً واستقراراًً، طريق الإسلام السهل المضلل. علاوة على أن طريق الإسلام الكاسد سيقود سالكيه من الزنج إلى أخطار كبيرة. وأكثر تلك الأخطار شدة هي توسعه بصورة آلية وتأصله في جهات أكبر مساحة وأغزر عدداً خلت منه إلى تاريخه. ويمكن للمرء ان يراوح على المجاز ليقول بأن تشجيع نشر العربية في الجنوب بمثابة صب للزيت على النار. وللخطر الناتج عن ذلك حدان. فالعرب لن يستنجدوا بالجنوب، الذي اعتنق الإسلام، باسم الديانة المشتركة متى هبوا هبتهم فحسب، بل أن عرب الشمال وصفوتهم في المدن لن يدخروا وسعاً في التضامن مع الجنوبيين متى ساءت العلاقة بين الحكومة والجنوبيين. وسيكون في ذلك حرجاً ما بعده للحكومة. إنه لمن عزم الأمور أن نتبع الطريق المصابر بتشجيع موظفينا بكل سبيل متاح أن يحصلوا على معرفة وثيقة وأشمل بكل ما يتصل بقبائل الزنج الكبرى، وأن يظهروا حماسة قلبية لتنمية لغاتهم وحفظ وتوقير كل ذات نفع وقيمة من عاداتهم ومؤسساتهم بالنزول عند كل معيار للحق احتوته. وبهذا السبيل سنعرض أنفسنا عليهم كأصدقاء خلص بدلاً عن دفعهم إلى جرف خطر هار. وبالزمن سنحصد ثمرة غرسنا: ستتطور سلسلة من الوحدات العرقية مكتفية تستمد هيكلها وتنظيمها من مأثور تقاليد الزنج وعقائدهم الراسخة. وستنتظم حياة العائلة اليومية والأفراد على الأعراف التي تواتيهم طبعاً. وسيزدهر الحس بالعزة القبلية. وخلال ذلك كله سينشأ حائط عظيم بوجه الفتن السياسية التي تفخخ طريق إدارتنا في الشمال. انتهى. أسمع أكثر هذا القول المكمايكلي من افواه معاصرة. لم نكسر قلمه: طق، بالأناة والحكمة والموعظة الحسنة (لا كما فعل عبد الله ود جاد الله). ورد المقتطف عند روبرت كولنز في كتاب "ظلال على القش"، صفحة 172
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة