سد النهضة الإثيوبي (GERD) يُعد واحدًا من أكثر مشاريع التنمية إثارةً للجدل، ليس في إثيوبيا فحسب، بل في جميع دول حوض النيل، وخاصةً مصر والسودان. فهو بالنسبة لإثيوبيا ليس مجرد مشروع تنموي، باعتباره أكبر محطة لتوليد الطاقة الكهرومائية في إفريقيا، بل يُعد رمزًا للفخر ومشروعًا قوميًا، يتطلع إليه شعب أنهكته المعاناة عبر قرون من الكفاح، والعيش تحت خط الفقر، مع تزايد سكاني وقلة في الموارد. لذلك تحوّل سد النهضة إلى حلم وطني وبارقة أمل للشعب الإثيوبي، بل ولشعوب القرن الإفريقي كافة. غير أن هذا السد، الذي يمثل طوق نجاة لشعوب إفريقيا الشرقية والوسطى، يُعد في المقابل مصدر قلق يصل إلى حد التهديد الوجودي بالنسبة لمصر. أما بالنسبة للسودان فالوضع مختلف؛ فمن الناحية العملية يمكن أن يشكل سد النهضة فرصة ذهبية لتنظيم جريان النيل الأزرق — المورد الأكبر لمياه النيل — وزيادة السعة التخزينية للسودان، مع بقاء المخاوف من إمكانية استخدامه كـ"قنبلة موقوتة" لقربه من الحدود السودانية. في هذا المقال، سأحاول تقديم صورة بيانية مدعّمة بالأرقام والخرائط، لتبسيط ما يُثار من جدل حول سد النهضة.
لمحة تاريخية:
تعود فكرة إنشاء سد على النيل الأزرق في إثيوبيا إلى عقود مضت، وتحديدًا إلى الدراسات التي أجرتها الولايات المتحدة الأمريكية في خمسينيات القرن الماضي. ومع ذلك، ظلت الفكرة حبيسة الأدراج بسبب الظروف السياسية المعقدة التي مرت بها إثيوبيا، ومنها سيطرة الشيوعيين على الحكم، والحروب، والمجاعات، والنزاعات الداخلية. أما الدراسات الجادة فقد أُجريت بين عامي 2009 و2010 بواسطة شركة "فري وورك ستوديو" الإيطالية، التي أعدّت دراسة الجدوى والتصاميم الأولية للسد. وفي 31 مارس 2011 أعلنت الحكومة الإثيوبية رسميًا عن مشروع سد النهضة، ووُضع حجر الأساس في 2 أبريل من العام نفسه. بدأ تنفيذ المشروع فعليًا في العام 2011 بواسطة شركة "ساليني إمبريغيلو" الإيطالية.
أولًا: موقع ومسافات السد
الموقع: على النيل الأزرق في إثيوبيا.
المسافة من بحيرة تانا: حوالي 30 كيلومترًا إلى المصب (الجنوب الشرقي).
المسافة من الحدود السودانية: حوالي 20 كيلومترًا فقط.
ثانيًا: جدول الإنشاء
بدء الإنشاء: أبريل 2011
المدة المتوقعة للإنشاء: 7 – 8 سنوات (تأخرت عن الجدول الأصلي)
بدء عملية الملء الأولى: يوليو 2020
الملء الثاني: يوليو 2021
الملء الثالث: أغسطس 2022
الملء الرابع: سبتمبر 2023
بدء توليد الطاقة: فبراير 2022 (بالتوربين الأول)
ثالثًا: الأبعاد والسعة والحجم
الارتفاع: 145 مترًا
الطول: 1,800 متر
سعة الخزان الكلية: 74 مليار م³
السعة الفعالة: 59.2 مليار م³
مساحة سطح البحيرة: 1,874 كم²
رابعًا: الطاقة المنتجة
عدد التوربينات: 13 توربينًا
السعة التوليدية الكلية: 5,150 ميغاواط
خامسًا: التكلفة والتمويل
بلغت التكلفة الرسمية المعلنة من الحكومة الإثيوبية نحو 4.8 مليار دولار، بينما يُقدّرها خبراء دوليون بنحو 6 مليارات دولار. أما مصدر التمويل الأساسي فكان من الشعب الإثيوبي عبر شراء السندات الحكومية دعمًا للمشروع ورفضًا لأي هيمنة خارجية. ومع ذلك، لا يُستبعد وجود دعم أو قروض خارجية غير معلنة.
سادسًا: تأثير سد النهضة على السودان
أولاً – الإيجابيات:
تنظيم جريان النيل وتقليل الفيضانات: يساعد السد في تخزين المياه خلال مواسم الأمطار الغزيرة وإطلاقها بشكل منتظم، مما يؤدي إلى:
تقليل مخاطر الفيضانات المدمرة التي تتكرر في السودان.
تحسين الملاحة النهرية طوال العام.
الطاقة الكهربائية: وافقت إثيوبيا على بيع جزء من الكهرباء المولدة للسودان، مما يساهم في:
التخفيف من أزمة الطاقة.
توفير طاقة نظيفة ورخيصة مقارنة بالمحطات الحرارية.
دعم التنمية الصناعية والاقتصادية.
تقليل الطمي والرواسب: سيحجز السد كميات كبيرة من الطمي التي كانت تترسب سنويًا في خزانات السدود السودانية (كالروصيرص وسنار)، مما يطيل عمرها ويقلل تكاليف الصيانة.
ثانيًا – الجوانب السلبية والمخاطر:
الاعتماد على التشغيل الإثيوبي: أصبح أمن السودان المائي مرتبطًا بكيفية تشغيل إثيوبيا للسد؛ فإغلاق التوربينات أو فتحها فجأة قد يسبب:
انخفاضًا حادًا في المياه خلال فترات الملء، ما يؤثر على مياه الشرب والزراعة.
التهديد على السدود السودانية: لقرب سد النهضة من سد الروصيرص (يفصل بينهما أميال قليلة)، فإن أي خلل في التشغيل يمكن أن يشكل ضغطًا هائلًا على السدود السودانية ويهدد بانهيارها، وهو خطر جسيم.
فقدان المياه بالتبخر: بسبب اتساع مساحة بحيرة السد، سيزداد معدل التبخر، مما يعني فقدان كميات كبيرة من المياه من النظام المائي ككل.
سابعًا: التأثير على مصر
ترى مصر في سد النهضة تهديدًا وجوديًا لأمنها المائي. وتتمثل أبرز المخاطر من وجهة نظرها في الآتي:
تهديد الأمن المائي: تعتمد مصر على النيل بنسبة 97% لتلبية احتياجاتها، وأي انخفاض في حصتها سيؤثر على:
الزراعة والأمن الغذائي.
مياه الشرب (خاصة في دلتا النيل).
الصناعة.
فترة ملء الخزان: تمثل أكبر خطر مباشر، إذ إن ملء الخزان بسرعة (خلال 3–5 سنوات) يؤدي إلى نقص حاد في المياه الواصلة إلى مصر، بينما تطالب القاهرة بتمديد فترة الملء إلى 10–15 سنة.
سنوات الجفاف: في حالات الجفاف، قد تُفضل إثيوبيا الاحتفاظ بالمياه لتوليد الكهرباء على حساب تدفقها لمصر والسودان، وهو ما يثير القلق لعدم وجود اتفاق ملزم ينظم هذا الوضع.
السيطرة الإثيوبية على المنبع: للمرة الأولى في التاريخ الحديث، تفقد مصر السيطرة على تدفق النيل، مما يمنح إثيوبيا وزنًا جيوسياسيًا جديدًا في المنطقة.
الإيجابيات المحدودة:
تقليل الطمي الواصل إلى السد العالي.
انتظام تدفق المياه في السنوات العادية، رغم أن هذا لا يُعوض مخاطر الجفاف.
ثامنًا: متى يكون الخطر أكبر على مصر والسودان؟
قد يتعاظم الخطر إذا توسعت إثيوبيا في إنشاء سدود إضافية على مجرى النيل الأزرق وروافده، إذ يمكن أن تتحكم كليًا في مياه النيل. وتوجد بالفعل دراسات إثيوبية لأربعة سدود جديدة، هي:
سد كارادوبي (Karadobi): موقع مقترح أعلى الحوض الجنوبي للنيل الأزرق.
سد مابيل (Mabil): على مجرى النيل الأزرق الرئيسي داخل الحوض.
سد منديا (Mendaya): في المجرى العميق للنيل الأزرق (Gorge).
سد بيكو أوبو (Beko Abo): موقع مقترح كبير أُدرج ضمن الخطط المستقبلية.
بالإضافة إلى مشروعات فرعية مثل Tana–Beles وBeles بين بحيرة تانا وروافدها، وتُستخدم هذه المشاريع للتحويل المائي وتوليد الطاقة في الحوض العلوي. لذلك، يبقى التفاوض وتبادل المصالح المشتركة هو الخيار الأفضل للدول الثلاث، مع ضرورة إشراك دول حوض النيل الأخرى في أي اتفاقات مستقبلية، تفاديًا لتعقيد الموقف الإقليمي أكثر.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة