في صباح السادس من أكتوبر 2025، غيّب الموت الدكتور محمد طاهر إيلا، أحد أبرز رجالات الدولة السودانية خلال العقود الأخيرة، بعد مسيرة امتدت لأكثر من أربعة عقود بين السياسة والإدارة والتنمية. ترك وراءه إرثاً مثيراً للجدل، تتقاطع فيه الكفاءة الإدارية مع الحضور السياسي الصارم، والإنجازات الميدانية مع الانتقادات اللاذعة. كان إيلا حالة استثنائية في السياسة السودانية، رجلًا أحبته المدن وخشيه السياسيون.
وُلد إيلا عام 1951 في مدينة جبيت بولاية البحر الأحمر، في أسرة ميسورة تنتمي إلى قبيلة الهدندوة، إحدى كبرى قبائل البجا بشرق السودان. تلقى تعليمه الأولي في جبيت وسنكات وبورتسودان، ثم التحق بجامعة الخرطوم، حيث نال درجة البكالوريوس في الاقتصاد. هناك بدأت ملامح شخصيته القيادية تتشكل وسط النشاط الطلابي، قبل أن يواصل دراسته العليا في جامعة كارديف البريطانية، ويحصل على الماجستير، مما أكسبه رؤية اقتصادية حديثة ستنعكس لاحقاً على أسلوبه في الحكم والإدارة.
منذ بداياته، لم يكن إيلا سياسياً تقليدياً بل إداريًا عمليًا يؤمن بالانضباط والتنفيذ. شغل مناصب وزارية في قطاعات النقل والطرق والتجارة والسياحة، واكتسب سمعة الرجل الذي ينجز بصمت. لكن نجمه سطع حقاً عام 2005 عندما عُيّن والياً على ولاية البحر الأحمر، حيث صنع تجربة تنموية غير مسبوقة. أعاد تأهيل الميناء، وشيّد الطرق والفنادق، وأطلق مهرجان السياحة والتسوق الذي أعاد الحياة لبورتسودان، فصارت المدينة أكثر ازدهاراً وأناقة. واعتُبرت تجربته نموذجاً للحكم المحلي الناجح القائم على المبادرة والإنجاز.
خلال عقد من الزمان، صار إيلا رمزاً للتنمية الملموسة، لكنه واجه أيضاً انتقادات حادة. اتُّهم بتغليب المشاريع العمرانية على التنمية البشرية، وبالميل إلى الإدارة الصارمة التي لا تسمح بالمشاركة الواسعة في القرار. كان يميل إلى المركزية، ويُعرف بقراراته الحاسمة وسرعة تنفيذه، ما جعل مؤيديه يرونه قائداً عملياً حازماً، وخصومه يعدونه سلطوياً لا يحتمل المعارضة.
في عام 2015، نقله الرئيس عمر البشير إلى ولاية الجزيرة، الولاية الزراعية الأكبر في السودان، في محاولة لتكرار تجربته الناجحة في الشرق. بدأ بإصلاحات إدارية وتنموية جريئة، لكن سرعان ما نشب خلاف بينه وبين المجلس التشريعي الولائي، انتهى بإعلان حالة الطوارئ وحل المجلس. كان ذلك الصدام تجسيداً لطبيعة إيلا الإدارية الصلبة التي لا تميل إلى المساومات السياسية.
ومع تصاعد الاحتجاجات الشعبية في البلاد مطلع عام 2019، لجأ إليه الرئيس البشير ليشكل الحكومة الجديدة في لحظة حرجة، فعُيّن رئيساً لمجلس الوزراء في فبراير من ذلك العام. رفع شعارات “محاربة الفساد” و“ترشيد الإنفاق” و“استعادة هيبة الدولة”، لكنه جاء متأخراً. فلم تمض سوى أسابيع حتى أطاحت الثورة بالنظام في أبريل 2019، منهية بذلك آخر فصول حكم البشير، وفترة إيلا القصيرة في رئاسة الوزراء.
غادر إيلا السودان بعد سقوط النظام، وظل بعيداً عن الأنظار حتى أكتوبر 2022، حين عاد إلى بورتسودان وسط استقبال جماهيري ضخم من أنصاره. ذلك المشهد كشف عن الانقسام العميق حوله: فبينما رآه البعض زعيماً تنموياً من طراز خاص، اعتبره آخرون أحد رموز النظام السابق الذي لا يجوز أن يعود. لكنه ظل بالنسبة للكثيرين “رجل الدولة” الذي أخلص لفكرة التنمية، حتى وإن خسر السياسة.
كان إيلا يجسد مفهوم “الحاكم التنفيذي” الذي يؤمن بأن الأفعال أبلغ من الأقوال. لم يكن مولعاً بالخطابة، بل كان يتحدث بالمشاريع: طريق جديد، ميناء مطور، مدرسة أعيد افتتاحها. كان يقيس نجاحه بما ينجزه لا بما يعد به. ربما لهذا السبب ترك أثراً واضحاً في المدن التي حكمها، أكثر مما تركه في المشهد السياسي القومي.
ورغم كل الجدل الذي أحاط به، يبقى محمد طاهر إيلا من أبرز النماذج الإدارية في تاريخ السودان الحديث. فقد جمع بين الحزم والرؤية، وامتلك القدرة على تحويل الأفكار إلى واقع. إن تجربته، بما لها وما عليها، تظل مرجعاً في إدارة الولايات وتنظيم الخدمات العامة، ودليلاً على أن السودان لم يكن يفتقر إلى الكفاءات بقدر ما افتقر إلى استقرار يسمح لها بالاستمرار.
رحل محمد طاهر إيلا بعد حياة مليئة بالعطاء والاختبار، تاركاً وراءه مدناً نهضت بجهده، ومؤسسات شهدت انضباطه، وجمهوراً يختلف في تقييمه لكنه يتفق على أنه كان رجل دولة نادراً في زمن الارتباك. رحم الله محمد طاهر إيلا، الرجل الذي آمن بأن الوطن يُبنى بالفعل لا بالشعارات، وبالعمل الصامت لا بالضجيج .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة