حذّرنا مراراً من تعنت الإثيوبيين ونكوصهم عن التزاماتهم بالإدارة المشتركة لسد النهضة، تلك الإدارة التي يفترض أن تضمن مشاركة السودان ومصر إلى جانب إثيوبيا، لأن السد بضخامته الهائلة وخطورة تأثيره البيئي على كامل الإقليم لا يمكن أن يُدار بقرار أحادي. إن مسألة الملء وتوقيته وحجمه، ولا سيما في أوقات الأزمات الطبيعية والتغيرات المناخية، هي قضية تتجاوز السيادة الوطنية إلى الأمن الجماعي لدول الحوض. غير أن تجاهل إثيوبيا لهذه الحقائق بات يفرض اليوم واقعاً مهدداً، حيث يواجه السودان ومصر – بدرجة أقل – خطر فيضان النيل بفروعه نتيجة استعجال أديس أبابا إكمال الملء هذا العام قبل التاسع من سبتمبر الماضي، وهو ما اضطرها لاحقاً إلى فتح بوابات السد لتفريغ المياه دون اعتبار للأضرار التي قد تلحق بجيرانهما. وقد تحول النيل الأبيض بالفعل إلى ما يشبه بحيرة ضخمة خلف وأمام سد جبل أولياء، بعدما خلقت التدفقات الهائلة للنيل الأزرق سداً طبيعياً عند المقرن، مهدداً حياة مئات الآلاف من السودانيين ومصالحهم.
في هذه الأجواء نفسها، شهدت العاصمة الكينية نيروبي بين 18 و20 يونيو الماضي انعقاد المنتدى الإقليمي الثالث لدول حوض النيل الشرقي، بمشاركة السودان، جنوب السودان، مصر وإثيوبيا، ضمن مبادرة حوض النيل. وقد أكد المنتدى على التعاون والتنسيق الفني والهندسي لإدارة الموارد المائية في ظل التغيرات المناخية المتسارعة، وشدد على أهمية ترشيد الاستهلاك والاستفادة من المياه الجوفية والأمطار. لكن هذه الروح التعاونية تصطدم دوماً بجدار الخلافات السياسية والقانونية، خاصة حول اتفاقية عنتيبي الإطارية التي تلقي بظلال كثيفة على مستقبل الأمن المائي لمصر والسودان.
اتفاقية عنتيبي، التي وُقعت عام 2010 بين خمس من دول المنبع قبل أن تنضم إليها بوروندي لاحقاً، لا تُخفي جذورها السياسية رغم صياغتها بلغة خداعية تغنت ب"العدالة والإنصاف". فهي في جوهرها محاولة لإعادة رسم معادلة للسيطرة على مياه النيل وإضعاف اتفاقية 1959 التي منحت مصر 55.5 مليار متر مكعب والسودان 18.5 ملياراً، واشترطت موافقتهما على أي مشاريع مائية في دول المنبع. أما "عنتيبي" فرفعت هذا الشرط ومنحت دول المنبع حرية بناء السدود دون الرجوع إلى دول المصب، ما وضع القاهرة والخرطوم في مأزق استراتيجي يهدد أمنهما المائي والاقتصادي. وتزداد الشبهات مع وجود دور إسرائيلي نشط في دعم هذه الاتفاقية عبر شراكات تقنية واستثمارات في الطاقة والزراعة والمياه، بما يتجاوز الأهداف التنموية إلى حسابات النفوذ الإقليمي.
وقد تجسدت آثار هذه المقاربة في مشروع سد النهضة ذاته. فمنذ بداية تشييده مضت إثيوبيا في سياسات أحادية دون شفافية، متجاهلة إعلان المبادئ الموقع عام 2015، الذي نص على التنسيق في الملء والتشغيل. حتى بعد أن اكتمل الملء الخامس في أغسطس 2023، بحجز نحو 74 مليار متر مكعب خلف السد، استمرت أديس أبابا في تجاهل المخاوف السودانية والمصرية، لتكشف الفيضانات الأخيرة في السودان حجم الخطر الماثل. فقد ارتفعت مناسيب النيل الأبيض بأكثر من سبعين سنتيمتراً فوق معدلاتها الطبيعية، وغُمرت نحو مئتي ألف فدان من الأراضي الزراعية، واضطر ما لا يقل عن ثلاثمئة ألف شخص إلى النزوح المؤقت، فيما واجهت مصر بدورها ضغوطاً على سياسات إدارة السد العالي.
وليس هذا السلوك من إثيوبيا جديداً أو معزولاً عن مسارها السياسي. فهي لم تراع يوماً حق الجوار، بل دأبت على الإضرار بالسودان بأكثر من وسيلة. فمن أطماعها المتكررة في أراضي الفشقة الحدودية، مروراً بدعمها العلني لبعض قوى “قحت” سياسياً، ودعمها الخفي لمليشيا الدعم السريع عسكرياً ولوجستياً خلال الحرب الأخيرة، وصولاً إلى التعنت في ملف سد النهضة، يتضح أن أديس أبابا ظلت تنظر إلى السودان ليس كشريك استراتيجي، وإنما كساحة يمكن العبث بها لمراكمة النفوذ. هذا السلوك ينسف أي حديث عن “شراكة إقليمية عادلة”، ويجعل السودان أمام خصم جارٍ لا يتردد في استخدام كل الأوراق للضغط عليه.
المفارقة أن المادة الثالثة من اتفاقية عنتيبي نفسها تنص على ضرورة مراعاة الاحتياجات الاقتصادية والبيئية لكل دولة، وهو مبدأ تم تجاهله تماماً في حالة سد النهضة. فالقول بالاستخدام المنصف والعادل للمياه يبدو جميلاً على الورق، لكنه حين يطبَّق دون النظر إلى الواقع المناخي والسكاني لدول المصب يتحول إلى ظلم مقنّع، حيث تعتمد مصر بنسبة تفوق 90% على مياه النيل كمورد وحيد تقريباً، بينما يعيش السودان على حافة المخاطر البيئية كل عام.
لقد أثبتت الفيضانات الأخيرة أن الملء الأحادي لا يشكل خطراً نظرياً بل واقعاً ملموساً يهدد الاستقرار الإقليمي. وإذا كان منتدى نيروبي قد رفع شعار التعاون، فإن إثيوبيا بممارساتها تناقض هذا الشعار عملياً، وتضع مصالحها الضيقة فوق حياة شعوب بأكملها. إن الاستمرار في هذه السياسات الأحادية لا يمكن أن يُواجَه بالانتظار أو الصمت، لأن ذلك يعني ببساطة التسليم لمعادلة الخنق المائي، وترك ملايين البشر رهائن لقرارات سياسية مغامِرة.
لقد آن الأوان لمصر والسودان أن يرفعا صوتهما بوضوح، وأن يستخدما كل الأدوات السياسية والدبلوماسية والقانونية، بل وأن يلوّحا بخيارات أشد إذا اقتضى الأمر، فالمياه قضية وجود وليست ملفاً تفاوضياً عادياً. إن سد النهضة، بحجمه الهائل وسعته التخزينية التي تتجاوز 74 مليار متر مكعب، قد يصبح قنبلة مائية موقوتة في قلب إفريقيا إن لم يُدار بشراكة وشفافية. والتاريخ لن يرحم من تقاعس عن حماية حق شعبه في الحياة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
د. ياسر محجوب الحسين
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست