حين علمتُ أن الجالية السودانية في مدينة برلين تعتزم الاحتفال لتكريم الدكتور حامد فضل الله، شعرتُ بمزيج من الهيبة والفرح. هيبة لأنني أكتب عن رجلٍ عاش تسعين عامًا وهو ينحت في صخر الزمن قيماً ومبادئَ تعلو عليه، وفرح لأن الحلم الذي راودنا طويلاً – أن يرى هذا الرجل بعينيه مقدار الحب والامتنان الذي يكنّه له كل من عرفه – قد تحقق.
بداية العلاقة
تعرفتُ على الدكتور حامد في أوائل سبعينيات القرن الماضي، خلال احتفال بعيد استقلال السودان في صالة المطعم الطلابي بجامعة برلين التقنية. يومها، كان عدد السودانيين في المدينة لا يتجاوز الخمسين، معظمهم من الأكاديميين والمبعوثين. ألقى الدكتور كلمته باللغتين العربية والألمانية أمام حضور ألماني كبير، وكان ذلك أول لقاء جمعني به وأنا طالب في السنة الإعدادية بجامعة برلين الحرة.
منذ ذلك اليوم، بدأت علاقة إنسانية وفكرية عميقة، تعمّقت عبر لقاءات متكررة في مناسبات وطنية وثقافية، وفي جلسات نهاية الأسبوع التي كانت تجمع نخبة من السودانيين في برلين.
رجل متعدد الأبعاد
الدكتور حامد لم يكن مجرد طبيب بارع، بل كان مثقفًا موسوعيًا، وأديبًا حساسًا، وناشطًا إنسانيًا، وصديقًا وفيًا. كان يتابع أبحاث المبعوثين السودانيين، يحضر جلسات دفاعهم، ويحتفل بنجاحاتهم الأكاديمية. كان حريصًا على اقتناء كتبهم، وعلى تنظيم ندوات تثقيفية للجالية، وعلى بناء جسور بين السودانيين والألمان.
في الصيف، كانت حفلات الشواء في الحدائق العامة تجمع الجميع، وكان الدكتور حاضرًا دائمًا، طبيبًا ومضيفًا وأبًا روحيًا.
حلمٌ من أجل الفقراء… ونضالٌ من أجل الوطن
من بين المحطات المهمة التي تستحق التوثيق في حياة الدكتور حامد فضل الله، مشروعه الإنساني الكبير الذي نذر له نفسه بعد تقاعده قبل خمسة وعشرين عامًا: إنشاء معهد للتدريب المهني على النمط الألماني في السودان.
لم يكن هذا الحلم وليد اللحظة، بل امتداد لتجربة ألمانية رائدة في السودان تعود إلى ستينيات القرن الماضي، حين أُسس أول معهد للتدريب المهني في القارة الإفريقية بمدينة الخرطوم. ومنذ ذلك الحين، ظل الدكتور حامد يحمل هذا المشروع في قلبه، مؤمنًا بأن التعليم الحرفي هو أحد مفاتيح الخروج من دائرة الفقر والعدم، خاصة للصبية الفقراء الذين لا يجدون طريقًا في السلم التعليمي التقليدي.
بإصرار الأبطال، وبتمويل ذاتي من حرّ ماله، وبمعاونة شقيقه الشيخ الوقور يوسف فضل الله، سعى الدكتور حامد لتحقيق هذا الحلم. جهّز المبنى، وفر الأدوات، واستقطب المعلمين المؤهلين، لكن السلطات في عهد نظام الإنقاذ رفضت مرارًا التصريح له، لأنهم لم يروا في المشروع مكسبًا سياسيًا أو ماديًا.
ورغم الإحباط، لم يتراجع. ظل يطرق الأبواب، ويكتب الطلبات، ويجري الاتصالات، حتى جاءت انتفاضة الشعب التي أطاحت بالنظام، وتم التصديق أخيرًا على الترخيص. بدأ المعهد في استقبال التلاميذ، واختيار الأساتذة، وافتُتح المبنى المميز الذي زرته بنفسي أثناء إحدى زياراتي للسودان، قبل أسابيع قليلة من اندلاع الحرب والاحتراب والنزوح والتشريد.
للأسف، لم يسلم المعهد من الخراب الذي طال المؤسسات التعليمية في البلاد، لكن الدكتور حامد، رغم كل شيء، ما زال متفائلًا. يؤمن بأن الحرب ستنتهي، وأن الجنرالات المعتوهين سيغلبهم صوت العقل، وأن السودان سيعود وطنًا يحتضن أبناءه، ويمنحهم فرصة للحياة الكريمة.
هذه القصة ليست مجرد مشروع تعليمي، بل شهادة على نُبل هذا الرجل، وعلى إيمانه العميق بأن التعليم هو الطريق إلى الكرامة، وأن العطاء الحقيقي لا يُقاس بالمردود، بل بالأثر.
شهادة من القلب
حين قررتُ كتابة هذه السطور، شعرت بثقل المهمة. فشهادتي ليست مجرد كلمات صديق لصديق، بل شهادة إنسان عن إنسان استثنائي جعل من حياته رسالة سلام ومحبة وإصرار.
أتذكر قوله لي ذات مساء: "العمر أقصر من أن نقضيه في حساب من أعطانا ومن منعنا، والأجمل أن نمنح دون أن ننتظر شيئاً." هذه هي فلسفته في الحياة: العطاء بلا شروط، والعمل بلا ملل، والحب بلا حدود.
خاتمة
أحب أن أقول لك يا دكتورنا الغالي: "إنك لم تكن طبيباً للأجساد فقط، بل كنت شاعراً للأرواح، ومهندساً للأمل. في عيون المغتربين، كنت وطناً آخر. وفي قلوب المحتاجين، كنت معجزة. تسعون عاماً من العطاء، وأنت ما زلت كما عرفناك: متواضعاً كالنجوم، عالياً كالقيم، صافياً كالضمير."
أدرك أنك لم تكن تكتب كتبك على الورق فقط، بل كنت تكتب سيرةً حسنة في قلوبنا جميعاً. شكراً لأنك كنت، وما تزال... نوراً في دربنا.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة