تابعنا حلقة الجزيرة التي جمعت الأستاذ شريف وهشام الترابي. كانت الحلقة بمثابة مرآة: أظهرت من يملك المنطق ومن يلفّ ويجمل الواقع بشعارات، ومن يسعى لتبرير ما لا يُبرر. هشام أبهر بعض المناصرين «بفِرَسْطَاية» تحليلٍ لغويّ لبيان الرباعية، حين قال إن البيان لم يذكر الدولة، فهل نحن أمام قصورٍ لغوي أم تجاهل واعٍ لتاريخٍ طويل من التفكيك؟ لن نتعلّق بالمصطلحات النحوية؛ فالمسألة أكبر: منذ 1956 أين كانت هذه (الدولة)؟ الدولة وفق أبسط تعريف: كيان سياسي يحكم شعباً في منطقة جغرافية، يوفر للمواطنين الأمن، الصحة، التعليم، والرفاه، وتموّل مؤسساته. فهل وجدت دولة بهذا المعنى حين انحرفت السلطة لصالح مؤسسات موازية؟ بالطبع لا. الجيش لا يوزع مقاعدٍ سياسية ولا يختزل معنى الدولة. لكن الواقع السوداني كان، ولا يزال في كثير من مراحل تاريخه الحديث، أن الجيش ظهر بديلاً عن الدولة: ذهب وحده إلى جدة، إلى المنامة، حتى كاد يذهب إلى جنيف نيابة عن السودان. الدولة الفعلية بمؤسساتها المدنية والقانونية لم تحضر. وهذا هو جوهر النقد الذي لم يستطع هشام تجاوزه: الحديث عن «الدولة» مجرد تجميلٍ لفظي ما لم نؤكد وجود مؤسسات تعمل وتخضع للمساءلة والشرعية الشعبية. هشام تباهى بكلام عن «الدولة» و«تجريد المؤسسات»، لكنّه تغافل عن القضايا الجوهرية: من أنشأ قوات الدعم السريع كقوة موازية؟ ومن سلّمها مهام الجيش؟ من رفض هيكلة الجيش والالتزام باتفاقيات الترتيبات الأمنية؟ من سمح بانتشار الميليشيات خارج القوات النظامية حتى بلغنا اليوم أكثر من 117 ميليشيا مسلحة؟ هنا لا نتحدث عن شخوص للتشويه، بل عن مشروعٍ ومنهجيةٍ أدّت إلى تفكيك الدولة على مراحل: نزع مؤسساتها، إضعاف القطاعات الأساسية، تسليع الموارد، وترك الشعب عرضة للفوضى. هؤلاء هم الذين صنعوا الخراب، وليسوا أبطالاً لمنابر كلامية تلوّن الواقع. الأستاذ شريف اختار لغة الحقائق: هدوء، بيانات، تاريخ. نجح في تفكيك ادعاءات هشام بمنطق بارد. أمّا هشام فغرق في أساليب دفاعٍ عن مشروعٍ انتهى زمنه أخلاقياً وسياسياً؛ مشروع لا يملك جواباً عن سبب نشوء الميليشيات أو عن سياسات التمكين والنهب التي أفقدت الدولة سيادتها. الخلاصة التي لا تحتمل لبساً: الدولة ليست كلمة تُستدعى في بيانات دولية لتجميل واقعٍ انهار. الجيش مُؤسسة داخل الدولة، لا الدولة كلها؛ وإذا استبدلته أذرعٌ حزبية أو ميليشيات، فذلك دليل غياب الدولة. اتهامات هشام لغياب ذكر «الدولة» في بيان الرباعية تشويشٌ على الحقيقة؛ الحقيقة أن ما يجب ذكره هو: المؤسسات الممزقة، المواطنين المعزولين، والميليشيات المنتشرة. كفى مساحيق للفظ «الدولة» فوق وجه واقعٍ مشوّه. كفى محاولات تزوير التاريخ بإرجاع كل فشل لغير أصحابه. من أنشأوا الدعم السريع؟ من سمح بانتشار الميليشيات؟ من نهب الموارد؟ من زوّر أجهزة الدولة لصالح شبكات خاصة؟ الإجابات واضحة، ولن تغطيها فِرَسْطَايات لغوية أو شعارات بلا مضمون. السودان يحتاج إلى دولة حقيقية، ليست إلى أقنعة تُلبَس عند الحاجة ثم تُرمى عند الخطر.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة