ليست كل الجرائم سواء، هناك جريمة تقع في لحظة غضب، وأخرى في لحظة ضعف إنساني، لكن هناك جريمة تُخطط لها في دهاليز الدولة، تُمارس بدم بارد، وتُحوّل إلى وظيفة رسمية. هكذا ابتدع نظام الحركة الإسلاموية في السودان مهنة الاغتصاب، وجعل من المغتصب موظفًا يؤدي واجبه كما يؤدي الشرطي عمله، أو كما ينجز الموظف مكتبه اليومي المعتاد. إنه ابتكار فريد في قسوته، يجعل القارئ يقف طويلًا أمام معنى أن تتحول الجريمة إلى أداة حُكم، والعار إلى وظيفة راتبة، وقد تجلى ذلك بوضوح حين ورد في محاضر قضية الشهيد أحمد الخير أن أحد المتهمين عرّف نفسه أمام المعتقلين بأنه "اختصاصي اغتصاب"، عبارة واحدة تختصر كل شيء، وتفضح نظامًا كاملًا لا جلادًا فردًا، وتكشف أن ما جرى كان صناعة ممنهجة لإذلال الإنسان وتحويل جسده إلى ورقة ضغط سياسي.
لم يكن الاغتصاب في السودان خلال سنوات حُكم الحركة الإسلاموية فعلًا همجيًا عابرًا، بل أصبح سياسة مدروسة، جزءًا من أدوات القمع والسيطرة. الاغتصاب هنا لم يُستخدم لإشباع نزوة مريضة، بل لتدمير إرادة الشعوب، لكسر كرامة الرجال والنساء على حد سواء، ولزرع الخوف في النفوس بحيث يصبح الحديث عن المعارضة أو التمرد مقترنًا دائمًا بشبح الاعتداء على الجسد. إن السلطة حين تجعل من الاغتصاب وسيلة حُكم، فهي تعلن أن لا شيء مُحرّم، وأن جسدك ليس ملكك، وأن خصوصيتك الداخلية يمكن أن تُخترق كما تُخترق حدود الدولة. بهذا يصبح الاغتصاب سلاحًا سياسيًا لا يقل خطورة عن السلاح الناري، بل ربما يفوقه أثرًا لأنه يترك أثرًا في الشخص وأسرته ومجتمعه، أثرًا لا يمحى من الذاكرة المجتمعية.
*اغتصاب المُعلم.. اغتصاب التعليم*..!!
في قلب هذه المأساة يبرز اسم الأستاذ أحمد الخير، الشهيد.. المُعلم البسيط الذي تحوّل إلى رمز خالد. كان يحمل الطباشير في يده، يكتب على السبورة كما يكتب الشاعر قصيدته، يغرس القيم في عقول تلاميذه، ويؤمن أن التعليم هو الطريق لبناء وطن أفضل. لكن النظام رآه خطرًا لأنه لم يسكت على الظلم، فاعتُقل واقتيد إلى المعتقل. لم يكتفوا بضربه أو تعذيبه، بل قرروا أن يقتلوه بطريقة أبشع: باغتصابه بآلة حديدية حتى تمزق جسده، فمات وهو يصرخ بكرامته المهدورة. إن اغتصاب أحمد الخير لم يكن جريمة ضد رجل واحد، بل كان اغتصابًا لفكرة التعليم نفسها، لكرامة المهنة التي تصنع الأجيال، ولرمزية المُعلم الذي يقف أمام تلاميذه ليزرع فيهم قيم الحق والخير. حين يُغتصب مُعلم، فإن الوطن كله يُغتصب معه، لأن المُعلم هو مرآة المستقبل. لقد أراد الإسلامويون القول إن الطباشير لا قيمة له أمام العصي، وإن السبورة لا تصمد أمام الزنازين، لكن ما لم يدركوه أنهم بصنعهم لجريمة بهذا الحجم صنعوا رمزًا خالدًا لا يموت.
*اغتصاب ود الريح.. انهيار الجدار الأخير للدولة..!*
ومن أحمد الخير ننتقل إلى محمد أحمد الريح، عليهما رحمة الله، الضابط المتقاعد الذي عاش عمرًا في خدمة الجيش. كان يظن أن سنواته في المؤسسة العسكرية تمنحه شيئًا من الاحترام والحماية، لكنه حين وقع في قبضة الجلادين الإسلامويين وجد نفسه عاريًا تمامًا أمام وحشية لا تعرف حدودًا. ساقوه إلى بيوت الأشباح، جردوه من كرامته، وأدخلوا آلة في دبره، تمامًا كما فعلوا بأحمد الخير. لقد كانت الرسالة قاسية ومركبة: لا قيمة لشرفك العسكري، لا لرتبتك السابقة، لا لماضيك في خدمة الوطن. فالولاء للتنظيم هو القانون الوحيد. باغتصاب ود الريح لم يُستهدف رجل واحد، بل استُهدفت رمزية الجيش بكامله. كان النظام يريد أن يُظهر أنه فوق المؤسسة العسكرية، وأنه قادر على إذلال ضابط متقاعد أمام جلادين بُسطاء، ليثبت أن السلطة الحقيقية ليست في البزات ولا في النياشين، بل في أيدي رجال الأمن الذين يمارسون هذه (المهنة) القذرة. بهذا الفعل انهار الجدار الأخير للدولة..!
*اغتصاب الفنانة صفية إسحاق.. اغتصاب الفن والإبداع*
وإذا كان أحمد الخير يمثل المُعلم الذي اغتُصب فيه الوعي، وود الريح يمثل الضابط الذي اغتُصبت فيه المؤسسة الوطنية، فإن صفية إسحاق تمثل الوجه الآخر للجريمة: اغتصاب المرأة السودانية الحُرة، واغتصاب الفن والجمال والإبداع. كانت صفية فنانة تشكيلية شابة، تحمل أحلامًا بلون الوطن. تم اختطافها من شارع (الحرية) في وسط الخرطوم والتوجه بها إلى مدينة بحري، حيث تعرضت للاغتصاب من قبل عناصر الأمن في أحد مكاتبهم بالقرب من موقف الحافلات التي تتوجه إلى مدينة شندي بولاية نهر النيل.
باغتصابها قرروا أن يحطموها بأبشع الطرق، لكنها لم تصمت كما توقعوا، بل خرجت إلى العالم وقالت بجرأة مذهلة: نعم، اغتصبوني. لقد كسرت جدار الصمت الذي يفرضه المجتمع على النساء، وواجهت العار الذي يريد النظام أن يلصقه بالضحايا بدلًا من الجناة، وحوّلت جرحها إلى شهادة، برغم محاولات إشانة سمعتها وقتلها معنويًا بواسطة زعيم (الجداد الإلكتروني) العنصري المأفون. وبفضل شجاعتها لم يعد الحديث عن الاغتصاب محظورًا، بل أصبح سلاحًا ضد النظام نفسه. لقد اغتصبوا جسدها، لكنها اغتصبت صمتهم وقساوتهم، وحوّلت قصتها إلى لعنة تطاردهم إلى الأبد.
*الأبعاد الاجتماعية والسياسية الخطيرة*
ومن خلال هذه الحوادث المؤلمة يبرز الاغتصاب كأداة قمعية تستخدمها الأنظمة الديكتاتورية ضد معارضيها، بما يحمله من أبعاد اجتماعية وسياسية خطيرة. حيث يُعرَّف الاغتصاب الموجَّه ضد المعارضين للنظم الديكتاتورية من الناحية الاجتماعية بأنه شكل من أشكال العنف الجنسي المنظّم، تتبناه أجهزة الدولة أو الميليشيات الموالية لها كأداة قمع سياسي. وكما توضح الباحثة ميشيل ليبي (Michele Leiby)، فإن هذا الفعل لا يرتبط بدوافع جنسية فردية بقدر ما يرتبط باستراتيجية ممنهجة تهدف إلى الترهيب والإذلال والسيطرة، وكسر إرادة الضحية وإسكات صوته السياسي، وإرسال رسالة رادعة للمجتمع بأكمله بأن المعارضة تعني التعرّض لأقسى أشكال الانتهاك (micheleleiby.com).
من الناحية الاجتماعية، يذهب باحثون في Oxford Academic إلى أن العنف الجنسي ضد المعارضين يترك أثرًا عميقًا يمتد إلى أبعد من الضحية الفردية، إذ يزرع مناخًا من الخوف والعار يثني الآخرين عن المشاركة في النشاط السياسي أو التعبير عن مواقف معارضة. هذا الأثر يتضاعف في مجتمعات تتحكم فيها معايير الشرف والسمعة، حيث يشير خبراء مثل ليبي إلى أن استخدام الاغتصاب يصبح وسيلة فعّالة لتهشيم الشبكات الاجتماعية للمعارضين وإضعاف تماسكهم الداخلي، مما يعزز عزلة الضحايا ويقوّي يد السلطة (micheleleiby.com).
أما من حيث آليات التنفيذ، فتؤكد تقارير منظمة العفو الدولية (Amnesty International) أن هذه الانتهاكات غالبًا ما تقع داخل مؤسسات الدولة نفسها، مثل مراكز الاعتقال أو مقار الاستجواب، أو عبر مجموعات مسلحة تتعمّد معاملة المعتقلين بعنف جسدي ونفسي. وتضيف المنظمة أن الاغتصاب في هذه الحالات يُدمج في إطار ممارسات تعذيب أوسع تشمل الإكراه الجسدي والإذلال الجنسي، بما يجعل الضحية في حالة انهيار كامل.
ويذهب خبراء من منظمة الدول الأمريكية (Organization of American States) إلى أن هذه الممارسات لا تتوقف عند حدود الأذى الفردي، بل تترك تداعيات اجتماعية وسياسية واسعة: فهي تدمر ثقة الضحايا بالمجتمع والمؤسسات، وتدفع إلى الهجرة أو الصمت القسري، وتؤسس لحالة من القمع طويل الأمد يصعب معالجتها. والأهم من ذلك أن هذه الانتهاكات عندما تُنفّذ بصورة منهجية ومنظّمة يمكن أن تُصنّف كجرائم ضد الإنسانية، ما يفتح الباب لمساءلة مرتكبيها أمام المحاكم والهيئات الدولية المختصة.
*وصمة العار..!!*
من خلال كل هذه الاستشهادات يتضح أن الاغتصاب كأداة سياسية لم يعُد انتهاكًا فرديًا، بل تحوّل إلى أداة سلطة تهدف إلى تفكيك المجتمعات المعارضة وإعادة تشكيلها عبر الخوف. بينما يلفت باحثون في علم الاجتماع السياسي إلى أن أخطر ما في هذا النوع من الجرائم هو أنها تُحاط عادةً بجدار الصمت بسبب وصمة العار، الأمر الذي يمنح الجناة حصانة اجتماعية ضمنية، ويجعل عملية التوثيق والمساءلة أكثر صعوبة.
وما بين قصة مُعلم وضابط وفنانة، يمتد نهر من الدموع والصرخات في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق. هناك لم يكن الاغتصاب حالات فردية، بل سلاحًا جماعيًا للإبادة. آلاف النساء اغتُصبن على مرأى من أسرهن، قُرى كاملة تحولت إلى ساحات إذلال، والمغتصبون كانوا يصرخون في وجوه الرجال: كرامتكم انتهت، نساؤكم تحت أيدينا. كانوا يريدون أن يزرعوا الرعب في النفوس، وأن يحطموا المجتمع من الداخل، وأن يجعلوا من الاغتصاب أداة لتغيير البنية السكانية نفسها. إن ما جرى في دارفور لم يكن صدفة ولا فوضى، بل سياسة متعمدة، جريمة ضد الإنسانية مكتملة الأركان.
*عندما يكون الاغتصاب رسالة سياسية..!!*
كل هذه الوقائع تكشف أن الاغتصاب لا يمثل وسيلة تعذيب فحسب، بل وسيلة للتواصل السياسي. النظام لم يحتج أن يكتب بيانات كثيرة، كان يكفي أن تنتشر قصة اغتصاب هنا وهناك ليُدرك الجميع أن أجسادهم مستباحة إذا فكروا في التمرد. كانت الرسالة تُرسل من جسد إلى جسد، من زنزانة إلى أخرى، من قرية إلى أخرى، حتى أصبح الاغتصاب دستورًا غير مكتوب يحكم العلاقة بين السلطة والمجتمع..!
هنا يصبح السؤال الفلسفي أعمق: ماذا يعني أن يتحول الجسد الإنساني إلى ورقة تفاوض؟ ماذا يعني أن يُستخدم الانتهاك أداة للسياسة؟ إنها ليست فقط جريمة ضد الضحية، بل جريمة ضد فكرة الإنسانية ذاتها.
وفي قلب هذه المأساة يظل الاعتراف الشهير حاضرًا: "أنا اختصاصي اغتصاب". لم تعد الجريمة سرًا، لم تعد عيبًا يختبئ في الظلام، بل أصبحت وظيفة معلنة يتفاخر بها الجاني. أي قاع هذا الذي يجعل من العار مهنة؟ أي انحطاط يجعل من الانتهاك بطاقة تعريف؟ إن وجود هذا الاعتراف يكفي ليُدين نظامًا بأكمله، خاصة وهو يدّعي نصرة الإسلام والدفاع عنه. لأن المجرم هنا لم يعد فردًا بل مؤسسة، لقد صارت بيوت الأشباح معامل لتخريج "اختصاصيي الاغتصاب"، وصار الجسد السوداني مختبرًا لإثبات الولاء وإرسال الرسائل.
وحين يتحول الاغتصاب إلى مهنة فهذا يعني أن الوطن كله قد اغتُصب. اغتصبوا الأرض حين وزعوها باسم (التمكين)، واغتصبوا المال العام حين نهبوه باسم (الشريعة)، وبل أهانوا ديننا الإسلامي السمح الذي يدعو إلى الطريق القويم حين جعلوه غطاءً لكل الرذائل. لم يتركوا شيئًا إلا واعتدوا عليه: جسد الإنسان، كرامته، ذاكرته، حلمه، مستقبله. كل ذلك جرى في بلد كان يُفترض أن يُبنى على قيم العدالة والدين، فإذا به يتحول إلى مختبر للرذيلة والدم.
سيأتي اليوم الذي يقف فيه هؤلاء الجلادون أمام محكمة التاريخ، والأهم أمام محكمة العزة الإلهية، حيث يقول تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم: 42]. يومٌ لا تعرف فيه المحكمة رشوة ولا تسويفًا ولا خوفًا، يوم يسأل فيه العزيز الجبار كل من تلطخت يداه: بأي حقٍ اغتصبتم المعلّم حتى الموت؟ بأي حقٍ أهنتُم ضابطًا متقاعدًا خدم وطنه بإخلاص؟ بأي حقٍ حولتم جسد فنانة إلى ورقة ضغط؟ بأي ضمير أعلنتم أن بينكم "اختصاصي اغتصاب"؟ يومها لن يُسأل الضحايا لماذا صمتوا أو انهاروا، بل سيتوجّه السؤال إلى الجلادين: كيف فعلوا؟ وكيف ناموا؟ وكيف عاشوا بعد أن جعلوا من الجريمة وظيفة، ومن العار مهنة، ومن الظلم طريقًا؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة