هل يمكن لشعبٍ أن يبني وطنًا جديدًا ومسالما وهو يضع أسماء جلاديه فوق جدران مدنه؟ كتبه خالد كودي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 10-17-2025, 02:40 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-30-2025, 04:18 AM

خالد كودي
<aخالد كودي
تاريخ التسجيل: 01-01-2022
مجموع المشاركات: 159

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
هل يمكن لشعبٍ أن يبني وطنًا جديدًا ومسالما وهو يضع أسماء جلاديه فوق جدران مدنه؟ كتبه خالد كودي

    04:18 AM September, 29 2025

    سودانيز اون لاين
    خالد كودي-USA
    مكتبتى
    رابط مختصر





    أحفاد مُلّاك الرقيق في السودان: بين الذاكرة المزوَّرة والتفوق المتوهَّم!

    9/29/2025 خالد كودي، بوسطن

    في اختلال القيم والمعايير
    من أكثر المفارقات السودانية إيلامًا أن أحفاد نخّاسي الأمس وأباطرة تجارة الرقيق قد تحوّلوا، في الذاكرة الجمعية، إلى "أبطال قوميين"، بينما ظلّ أحفاد المسترقين محكومين بالهامش والتهميش. هذا ليس مجرد خطأ في السرد التاريخي، بل اختلال جوهري في منظومة القيم والمعايير. فعندما يُستدعى الجلاد رمزًا وطنيًا ويُدفن الضحية في صمت النسيان، تُبنى الهوية الوطنية على أساس زائف يعيد إنتاج التفوق العرقي والاجتماعي كأنه امتياز مشروع.
    الأخلاق والتاريخ يعلّمانا أن المجتمعات لا تنهض إلا حين ترسم حدودًا واضحة للعدالة: فما هو شر يظل شرًا مهما طال الزمن، وما هو عار لا يُحوَّل إلى بطولة. والتاريخ يذكّرنا أن كل محاولة لتجميل العبودية أو ترقيع ذاكرتها تنتهي بمطاردة لا مفر منها. فالأمم التي واجهت ماضيها – من أمريكا بعد الرق إلى جنوب إفريقيا بعد الأبارتايد – لم تجد طريق السلام إلا عبر الاعتراف والمساءلة. أمّا السودان، فبإصراره على تمجيد نخّاسيه، يحكم على نفسه بأن يبقى أسير تناقض أخلاقي يعيق بناء دولة حديثة تقوم على المساواة والحرية.
    إن هذه الذاكرة المشوَّهة ليست مجرد تزييف للماضي، بل عائق وجودي للحاضر والمستقبل: فهي تزرع بذور العنف، تغذّي انقسامات الهوية، وتمنع الانتقال من مجتمع قائم على الامتيازات الوراثية إلى وطن عادل يتساوى فيه المواطنون. وما لم يُصحَّح هذا الاختلال، سيظل تاريخ النخاسة يطارد السودان بالعار كظل ثقيل، يذكّره بأن التقدّم لا يُبنى على إنكار الضحية ولا على تمجيد الجلاد.

    أولًا: التاريخ كأداة للسيطرة
    لم يُكتب تاريخ السودان الرسمي بأقلام المقاومين والثوار او الابطال ولا بذاكرة الضحايا، بل صاغته نخب ورثت النفوذ من أسلافها النخّاسين، الذين بدورهم ورثوا نفوذهم من المستعمر. وما زالت الخرطوم شاهدة على هذا الخلل: شوارعها تحمل أسماء مثل الزبير باشا رحمة (1831–1913)، أحد كبار النخاسة وتجار الرقيق في القرن التاسع عشر، مكرَّسًا بوصفه "بطلًا قوميًا"، بينما مُسحت عمدًا ذاكرة المسترقين والمهمشين من السرد الوطني!
    مثلا، في مذكرة كرام المواطنين (1925)، التي رفعتها نخبة من "علية القوم" إلى الإدارة الاستعمارية، برزت أسماء مثل عبد الرحمن المهدي، الشريف يوسف الهندي، علي الميرغني، بابكر بدري، إلى جانب عشرات من كبار التجار والأعيان حينها. لم يكتف هؤلاء بالصمت، بل دافعوا بانتهازية صريحة عن بقاء الرق، متذرعين بضرورات الزراعة والخدمة المنزلية، ومتجاهلين إنسانية من يسترقون والقوانين الدولية التي جرّمت العبودية. لم يروا في المسترقين بشرًا كاملي الأهلية، بل اعتبروهم "ممتلكات" قابلة للبيع والشراء، أدوات عمل لا أكثر.
    هذا الموقف لم يكن جهلًا بريئًا، بل انحطاطًا أخلاقيًا مقصودًا، يعكس رغبة في صيانة الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية بعد الاستعمار. لقد ربطوا "كرامتهم" وهيبتهم السياسية بامتلاك البشر، وأصروا على الدفاع عن الرق حتى بعد أن صار عارًا عالميًا.! إنه اعتقاد بائس وغبي، يكشف عن انهيار في القيم الإنسانية وانفصام في المعايير الأخلاقية.
    والأدهى أن أحفاد هؤلاء ما زالوا حتى اليوم يتفاخرون بأن أسلافهم "امتلكوا رقيقًا"، معتبرين ذلك علامة على الهيبة والوجاهة الاجتماعية. بعض الأسر الكبيرة ما زالت تهيمن على مفاصل السياسة والاقتصاد، محافظةً على سردية مشوَّهة تحوّل الجلادين إلى "أبطال قوميين"، وتُقصي الضحايا من سجل الذاكرة.
    كما كتب ميشيل–رولف ترويو في
    Silencing the Past:
    "التاريخ يُكتب بالصمت بقدر ما يُكتب بالكلمات". والسودان اليوم مثال صارخ على هذا: صمت متعمَّد عن الضحايا، وصمت متعمد عن الابطال الذين قاوموا الاستعمار، تضخيم لصورة الجلادين، وصياغة لذاكرة وطنية زائفة تُشرعن "تفوقًا متوهَّمًا" صار قاعدة الهيمنة.
    وليس السودان بدعة؛ فقد دافع ملاك العبيد في الولايات المتحدة حتى منتصف القرن التاسع عشر عن الرق بوصفه "مؤسسة طبيعية وإلهية"، قبل أن تسقط تلك العقيدة في أتون حرب أهلية (1861–1865). وفي العالم الإسلامي، من بغداد ودمشق إلى القاهرة وسواكن، وامدرمان، ظلّت تجارة الرقيق مبررة بغطاء فقهي–ديني. لكن الفارق أن كثيرًا من تلك المجتمعات دخلت مسارات مساءلة واعتراف، بينما بقي السودان أسير نخبة تُحوّل عار النخاسة إلى "بطولة قومية" مع سبق الاصرار، في تعبير فجّ عن تخلف القيم، وغياب الاعتراف بالضحايا، واستمرار الارتهان لماضٍ لا إنساني.

    ثانيًا: من الدفاع عن الرق إلى رفض المواطنة المتساوية والفخر بعار التاريخ
    إن تمسّك النخب السودانية بتمجيد إرث أسلافها النخّاسين ليس مجرد حنين إلى الماضي، بل هو آلية دفاع معاصرة ضد كل مشروع يهدد امتيازاتهم. فكما دافع الأجداد عن الرق باسم "الاقتصاد والزراعة"، يقف الأحفاد اليوم ضد العلمانية والعدالة التاريخية باسم "الثقافة والدين"!.
    العلمانية، بما تعنيه من مساواة في المواطنة وفصل للدين عن الدولة، هي الخطوة الأولى للخروج من إرث النخاسة، لأنها تنزع عن النخب وهم "الحق الإلهي" في التفوق والسيطرة. أما العدالة التاريخية، بما تتطلبه من مساءلة للذاكرة الجمعية، فإنها تهدد بإسقاط صورة "الأبطال القوميين" التي شُيّدت على الاستعباد والتهميش. لذلك فإن رفض العلمانية والعدالة اليوم ليس سوى امتداد مباشر لرفض أسلافهم تحرير العبيد بالأمس: فكما قاوم الأجداد فقدان اليد العاملة وامتيازات الزعامة، يقاوم الأحفاد اليوم المساواة الكاملة لأنها تُعرّي امتيازاتهم التاريخية وتضعهم على قدم المساواة مع من اعتبروهم دومًا "أدنى".
    في هذا السياق، يتحوّل العار إلى وسام. ففي المجتمعات التي لم تخضع لمساءلة تاريخها، يصبح الانتماء إلى أسرة من "مُلّاك الرقيق" مصدر امتياز و فخر لا خجل، بل رأسمالًا رمزيًا يتيح لأحفاد النخّاسين فرض التسلسل الطبقي على الآخرين. وهذا ما سماه بيير بورديو بـ"الرأسمال الرمزي": تحويل الماضي الإجرامي إلى امتياز اجتماعي متوارث. إن التفاخر بأن الأجداد امتلكوا بشرًا – لا أرضًا أو ماشية فحسب – يكشف عن خلل أخلاقي عميق، وعن عقلية متخلفة لم تدرك بعد أن الاسترقاق ليس تاريخًا يُتباهى به، بل جريمة مقززة ضد الإنسانية.
    وتبرهن تجارب الشعوب الأخرى أن مواجهة الماضي شرط للتحرر. ففي جنوب إفريقيا، لم يكن الانتقال من الأبارتهايد إلى الديمقراطية ممكنًا إلا عبر مسار "لجنة الحقيقة والمصالحة" التي كشفت الجرائم وأجبرت المجتمع على الاعتراف بها، لتُبنى شرعية جديدة على أساس المساواة لا على الامتياز العنصري. وفي ألمانيا، لم يكن بناء الدولة الحديثة بعد النازية ممكنًا إلا عبر مسار عميق من مساءلة الذاكرة – ما عُرف بـ
    " Vergangenheitsbewältigung"
    (التغلب على الماضي) – حيث تحوّل الاعتراف بالجرائم إلى حجر أساس في التربية والسياسة
    أما في السودان، فقد ظلّ أسير نخبة تتعامل مع إرث الرق كما لو كان "بطولة قومية"، وتستخدم الدين والثقافة لتبرير استمرار الامتيازات الطبقية والعرقية. وهكذا يتضاعف المأزق: عار التاريخ يُحوّل إلى رأس مال اجتماعي، ورفض المساواة يُقدَّم كدفاع عن الهوية. والنتيجة أن الوطن يظل مشلولًا، عاجزًا عن الانتقال إلى مرحلة جديدة. إن الطريق إلى وطن حديث، عادل، ومسالم، يبدأ من حيث انتهت تلك التجارب: من مساءلة شجاعة، واعتراف بأن التحرر من إرث النخاسة لا يكتمل إلا بتبني مشروع علماني ديمقراطي يقوم على المواطنة المتساوية والعدالة التاريخية.

    مذكرة كرامة المواطنين 1925: فرصة ضائعة
    لقد شكّلت مذكرة كرامة المواطنين (1925) لحظة فارقة في تاريخ السودان كان يمكن أن تكون مدخلًا لمساءلة الماضي وتفكيك إرث النخاسة. لكن بدل أن تتحول إلى إعلان تحرر، جرى توظيفها للدفاع عن الرق من قِبل النخب التي رأت في العبودية أساسًا لامتيازاتها الاقتصادية والاجتماعية. تلك اللحظة التاريخية تكشف أن السودان، بخلاف جنوب إفريقيا بعد الأبارتهايد أو ألمانيا بعد النازية، لم يدخل يومًا في مسار مواجهة جذرية مع ذاكرته المظلمة. بينما اختارت تلك الشعوب تحويل جراحها إلى قوة تأسيسية لبناء دول جديدة، ظل السودان رهين نخب تُنكر الماضي وتحوّل العار إلى وسام. ومن ثم، فإن استعادة هذه اللحظة اليوم لا تعني فقط فضح موقف النخب القديمة، بل تأكيد أن التحرر الحقيقي لن يتحقق إلا عبر مساءلة صريحة وجذرية لذلك الإرث، تمامًا كما فعلت شعوب أخرى خرجت من الاستعباد والعنصرية إلى أفق المساواة والعدالة.

    ثالثًا: التداعيات السياسية والاقتصادية
    منذ استقلال السودان، حافظت النخب المركزية (في الخرطوم والمدن الكبرى) على مواقعها بالاستناد إلى هذا الرأسمال الرمزي. لقد صاغت الاقتصاد والسياسة بما يضمن استمرار تفوقها: السيطرة على التعليم والإعلام، إعادة إنتاج أساطير البطولة، وتحويل ثروات الحرب وتاريخ النخاسة إلى ثروات مالية–سياسية. هذا يعكس ما يسميه فرانز فانون بـ"البرجوازية الوطنية الكومبرادورية"، التي تستمد قوتها من الاستعمار أو من "تاريخ نخاسي" ترفعه إلى مصاف البطولة.

    رابعا: أحفاد مُلّاك الرقيق في السودان: بين أساطير التفوق والذاكرة المزوّرة
    ١/ النرجسية التعويضية والبحث عن تفوق متوهَّم
    من منظور سيكولوجي، ما نراه في السودان المعاصر من تفاخر النخب بأصولها المرتبطة بالرق هو حالة من التعويض النرجسي. كما شرح ألفرد آدلر، تتحول هشاشة الهوية إلى "شعور بالتفوق"، حيث يُخفي الأفراد والجماعات خوفهم من فقدان السيطرة بادعاء عظمة تاريخية. وبذلك يصبح الماضي، مهما كان دمويًا أو مهينًا، مصدرًا للفخر لا العار. هذه الظاهرة ليست استثناءً سودانيًا، بل امتداد لمسار طويل في التاريخ الإنساني، حيث ارتبط الرق دومًا بأساطير القوة والشرف والثراء.
    ٢/ من الحضارات القديمة إلى الفلسفة اليونانية
    في مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين، كان الرق جزءًا من النظام الاجتماعي والاقتصادي. شريعة حمورابي (القرن 18 ق.م) نظّمت حقوق العبيد وعقوباتهم، بينما ارتبطت ملكية العبيد بالهيبة والقرب من السلطة الإلهية.
وفي اليونان الكلاسيكية، بلور أرسطو (384–322 ق.م) فكرة أن "بعض البشر عبيد بالطبيعة"، وأن تفوق الآخرين عليهم ضروري لبقاء المدينة والدولة. هنا وُلدت أول أسطورة فلسفية: العبودية كشرط للحضارة وليست وصمة عار.
    ٣/ روما والإمبراطورية كشرعية للرق
    في روما الإمبراطورية (27 ق.م – 476 م)، كان عدد العبيد معيارًا للثراء والمكانة. المزارع الكبرى والاقتصاد الإمبراطوري بُنيا على ظهور المسترقين. النخب الرومانية تفاخروا بقدرتهم على التحكم في جموع العبيد، باعتبار ذلك دليلًا على القوة والسيادة. حتى من أبدى تعاطفًا أخلاقيًا مثل سينيكا لم يطعن في شرعية الرق.
الأسطورة الثانية: العبودية هي وقود الإمبراطوريات ومظهر لعظمتها.
    ٤/ العصور الوسطى والدين كمُبرِّر
    مع المسيحية، وُلدت تبريرات جديدة. أوغسطين (354–430 م) اعتبر أن الرق قد يكون عقوبة إلهية للخطيئة، بينما رأى توما الأكويني (1225–1274 م) أنه يمكن أن يكون "مشروعًا" إذا خدم النظام الاجتماعي.
وفي العالم الإسلامي الوسيط، ورغم التحريم الجزئي لاسترقاق المسلمين، ظلت تجارة الرق مشروعة ضد غير المسلمين، ورسّخها الفقهاء في سياق "الفتح" و"الحرب". وهكذا أصبحت العبودية قدرًا اجتماعيًا ودينيًا أكثر من كونها جريمة.
    ٥/ الكشوف الجغرافية والعصر الحديث المبكر
    مع الكشوف البرتغالية والإسبانية في القرن 15، وُلد الرق العابر للأطلسي. ملايين الأفارقة سُلبوا من أوطانهم إلى الأمريكتين. هنا طُرحت أساطير جديدة:
    رجال الدين أعادوا إحياء "لعنة حام" لتبرير استعباد الأفارقة.
    السياسيون والتجار وصفوا الرق بأنه ضرورة اقتصادية. جون هوكينز (1562)، أحد أوائل تجار الرقيق الإنجليز، تفاخر بأنه "يرفع شأن إنجلترا" بتجارته.
    حتى بعض الفلاسفة مثل فولتير لم يرفض الرق رفضًا جذريًا، بينما برر جون لوك في بعض كتاباته ملكية العبيد باعتبارها امتدادًا لحق الملكية.
الأسطورة الثالثة: العبودية ضرورة للتقدم الاقتصادي وحق للأمم المتفوقة.
    ٦/ السودان: النخاسة كبطولة قومية
    - لم يكن الرق في السودان معزولًا عن السياق الإسلامي–الفقهي، بل وجد له غطاءً شرعيًا متواصلًا. ففي كتب الفقه التقليدية، من الموطأ لمالك بن أنس إلى الأم للشافعي والمغني لابن قدامة، اعتُبر الرق نتيجة طبيعية للحرب و"ملك اليمين" حقًا مشروعًا للسيد، يباح له الاستمتاع بالجواري دون عقد أو إذن. بل إن بعض الفقهاء، مثل ابن تيمية، أكدوا أن الاسترقاق يمكن أن يكون "رحمة" بالكفار لأنه يُدخلهم في الإسلام عبر خدمة أسيادهم. هذه المرويات لم تكن مجرد تنظير، بل تحولت إلى ثقافة متجذّرة جعلت استعباد البشر ممارسة مألوفة لا تُرى كعار، بل كحق مكتسب.
    - في السودان، تضاعف الأمر خطورة مع التوسع العثماني–المصري في القرن التاسع عشر. فقد كانت الخرطوم مركزًا عالميًا لتجارة الرقيق، حيث وثّق الرحالة الأوروبيون – مثل جون بيتس وصامويل بيكر وغردون باشا – مشاهد بيع النساء والأطفال علنًا، يُعرضون عراة ليفحصهم المشترون كما تُفحص الدواب. وثائق بيت مال المهدية و المكاتبات العثمانية–المصرية نفسها أشارت إلى أن عشرات الآلاف من شباب جنوب السودان ودافور وكردفان كانوا يُساقون سنويًا إلى أسواق الرق.
    - وسط هذه الممارسات، برزت شخصيات مثل الزبير باشا رحمة (1831–1913)، الذي لم يكن سوى أحد أضخم تجار الرقيق في إفريقيا. أقام إمبراطورية مالية وعسكرية من عرق ودموع المسترقين، حتى لُقّب في الوثائق البريطانية بـ"ملك النخاسة". ومع ذلك، ما زال اسمه يُمجد في الخرطوم ويُقدَّم كبطل وطني. المفارقة الصادمة أن السودان الرسمي يتجاهل شهادات تاريخية صريحة: في رسائل غردون باشا عام 1874، كتب أن "الخرطوم تحولت إلى أكبر سوق نخاسة في العالم، حيث تُباع الفتيات السودانيات في عمر العاشرة كأدوات متعة"!
    - الأسطورة السودانية المزيّفة تصرّ حتى اليوم: الرق ليس عارًا، بل مصدر فخر قومي وهيبة اجتماعية. النخب التي ورثت هذا الإرث لا تكتفي بالصمت، بل تواصل نسج الأغاني والأشعار التي تمجّد أجدادهم النخّاسين، وتجعل من الانتساب إلى "أحفاد الملاك" علامة شرف، في حين أنه، في ضوء التاريخ والفقه والحقوق الإنسانية، وصمة عار كبرى. إن الاستمرار في رفع شأن هؤلاء النخّاسين يكشف كيف يُعاد إنتاج الهامشية في السودان كقدر أبدي لضحاياها، وكيف يُبنى الوطن على ذاكرة مشوَّهة تمنح البطولة للجلاد وتدفن الضحية في الصمت.
    ٧/ النخب المعاصرة: مواجهة الذاكرة أو تمجيد الجلادين
    - أمريكا: استمر التفاخر بالانتماء إلى عائلات مالكي العبيد حتى القرن العشرين، قبل أن تُجبر حركة الحقوق المدنية المجتمع على إزالة تماثيل قادة الكونفدرالية وإعادة تسمية الشوارع والمؤسسات العامة
    - ألمانيا النازية: لم يكن ممكنًا بناء الديمقراطية بعد 1945 دون ما سماه يورغن هابرماس "دين الذاكرة."
    (Erinnerungsarbeit)
    أي تحويل الماضي النازي إلى درس أخلاقي للأمة "وهذا مايحتاجه السودان في تقديرنا"
    - جنوب إفريقيا: مع نهاية الأبارتهايد، ربطت "لجنة الحقيقة والمصالحة" بين العدالة والذاكرة، بدل الاستمرار في تمجيد نظام التفوق العنصري.
    السودان، في المقابل، يفتقر إلى أي مشروع مشابه، بل لا يزال يكرس إرث النخاسة في التعليم، الإعلام، والتخطيط الحضري.

    خامسا: مساءلة الذاكرة شرط للتحرر
    منذ شريعة حمورابي الي أرسطو، مرورًا بالرومان، وأوغسطين وتوما الأكويني، وصولًا إلى تجار الأطلسي والمهدية والزبير باشا، يتكرر الخطاب نفسه: السيطرة على البشر شرف وامتياز.
لكن الفارق أن كثيرًا من المجتمعات واجهت هذا الماضي – بدرجات متفاوتة – بينما ظل السودان أسيرًا له. من دون تفكيك هذه الأساطير ومساءلة إرث النخاسة، ستظل النخب السودانية تبني مجدها على وهم التفوق، وسيظل الابطال الحقيقيين والضحايا بلا ذاكرة رسمية. التحرر الحقيقي يبدأ من الاعتراف بالعار، وإعادة كتابة التاريخ من منظور المسترقين لا الملاك.

    سادسًا: الرق كفضيحة إنسانية ممتدة
    الرق لم يكن مجرد "نظام عمل" أو "ترتيب اقتصادي"، بل كان في جوهره فعل عنف وهيمنة مطلق، حيث يُختزل الإنسان إلى "ممتلكات" تُشترى وتُباع وتُفحَص كما تُفحَص الدواب. كان مالك الرقيق يمتلك سلطة كاملة على جسد وروح مسترقيه: يقرّر مصائرهم، يزوّجهم أو يمنعهم، يجلدهم ويعاقبهم، ويستطيع أن يغتصب النساء والفتيات منهم دون مساءلة، معتبرًا ذلك "حقًا شرعيًا" وامتدادًا لملكيته. هذه السلطة المطلقة ولّدت في كثير من المالكين شخصية مشوَّهة نفسيًا؛ فهم لا يرون أنفسهم رجالًا إلا بمقدار ما يفرضون من إذلال على الآخرين، ولايزال هذا الواقع قائما- وهو ما ادي الي جرائم الإبادة في الهامش.
    لقد وصف مؤرخو العصور الوسطى كيف كان تجار الرقيق والنخّاسون يفحصون "سلعتهم البشرية" علنًا: يتأكدون من الأسنان والعضلات والقدرة على الإنجاب، بل كانوا يعرضون الجواري عاريات في الأسواق ليحدد المشترون "قيمتهن" من خلال أجسادهن. كان هذا الفعل أقصى درجات انعدام الإنسانية: تحويل الروح إلى ثمن، والجسد إلى سلعة. والعقوبات على الرقيق كانت قاسية: من الجلد والوسم بالنار إلى القتل عند محاولة الهرب، ودون مساءلة!
    في البلاطات الإسلامية، تحوّل الاسترقاق إلى مؤسسة قائمة بحد ذاتها. الجواري لم يكنّ مجرد خادمات، بل أدوات متعة وسلطة في قصور الخلفاء والأمراء. قصص الحريم في بغداد ودمشق والقاهرة وسواكن وامدرمان شاهدة على أن علية القوم لم يتورعوا عن تحويل قصورهم إلى أسواق داخلية للجسد، حيث يُباع الشرف وتُشترى الطاعة. بل إن أسماء بعض من نُقدّمهم اليوم كـ"أبطال حضاريين" ارتبطت بهذا الانحطاط، إذ تفاخروا بعدد الجواري والخصيان في بلاطهم أكثر مما تفاخروا بالعدالة أو العلم.
    لكن التاريخ أيضًا يقدّم أمثلة معاكسة، إذ تميّز بعض العبيد بإنسانيتهم وإنجازاتهم، وحققوا ما لم يحققه أسيادهم. يكفي أن نذكر الزنوج الذين قادوا ثورة هايتي 1791 وحوّلوها إلى أول جمهورية سوداء في التاريخ، أو العلماء والكتّاب الذين خرجوا من صفوف المسترقين وأثبتوا تفوّقهم على "أسيادهم" في الفكر والأدب والروح. هؤلاء كشفوا أن الرق لم يستعبد سوى الأجساد، أما العقول والضمائر فقد بقيت قادرة على الانتصار.
    في السودان، لم يختلف الأمر كثيرًا. النخّاسون الذين يُرفعون اليوم إلى مقام "الأبطال القوميين" لم يكونوا سوى مستغلين للضعفاء، بنوا هيبتهم على امتلاك البشر. بعض الأسر ما زالت تحاول تقديم ذلك الإرث الملوث كجزء من "التاريخ الوطني"، متجاهلة أن هذا التاريخ يقوم على إذلال السودانيين بعضهم لبعض.
    إن تمجيد النخاسة اليوم هو فضيحة أخلاقية لا تقل قسوة عن فعل الرق نفسه. فمن يرفعون صور النخّاسين باعتبارهم "علية القوم" لا يختلفون كثيرًا عن من كانوا يعرضون العبيد في الأسواق ويُخضعونهم للفحص والإذلال. وهذه الثقافة المريضة – التي ترى في القسوة امتيازًا وفي الاستعباد بطولة – ما زالت تسكن البنية العميقة للسودان الحديث، وتمنع ولادة وطن عادل يقوم على المساواة والكرامة الإنسانية.
    إدوارد سعيد كشف في الاستشراق كيف أن بناء السردية التاريخية والثقافية هو أداة للهيمنة: القوى المهيمنة تكتب تاريخها كـ"بطولة"، فيما تصوِّر الآخر كـ"هامشي" أو "عديم التاريخ". في السودان، هذا يظهر بوضوح في الاحتفاء بالزبير باشا رحمة كتاجر رقيق "وطني"، بينما يتم تجاهل نضالات سكان جبال النوبة ودارفور والنيل الأزرق وابطالها الذين قاوموا العبودية والاستعمار والتهميش.
    أما غاياتري سبيفاك فقد صاغت سؤالها الشهير: هل يستطيع التابع أن يتكلم؟، لتكشف كيف يتم إسكات أصوات المستضعفين وإقصاؤهم من الذاكرة والتاريخ. في السودان، التابعون لم يُسكتوا فحسب، بل تم تحويل جلاديهم إلى "أبطال"، بينما محيت أسماء المقاومين من الكتب المدرسية، ومن الإعلام، ومن الذاكرة الجمعية.
    فلسفيًا، اخلاقيا وتاريخيا، البطولة في السودان لا يمكن أن تُقاس بعدد الجواري والعبيد الذين امتلكهم نخّاس، بل بعدد المرات التي واجه فيها الابطال والمهمشون الظلم بصدورهم العارية.
سياسيًا، لن تُبنى دولة المواطنة المتساوية إلا بتفكيك الرأسمال الرمزي للنخّاسين، وقطع صلتهم بالذاكرة الرسمية.
سيكولوجيًا، لا تحرر ممكن من عقدة التفوق المتوهَّم إلا عبر الاعتراف الصريح بالعار الذي يمثله تاريخ الرق وتداعياته. ولنتذكر،
تاريخيًا، العالم قدّم نماذج مضادة: ثورة هايتي بقيادة توسان لوفرتور (1791–1804) قلبت أسطورة التفوق الأبيض وأعلنت أن المستعبَدين قادرون على هزيمة إمبراطوريات كاملة. وكذلك فعلت ثورة الزنج في القرن التاسع الميلادي، التي واجهت الخلافة العباسية في قلبها، وعشرات الثورات في السودان ضد المستعر والتي لم يذكرها التاريخ الرسمي لأنها انطلقت من الهامش، وقادها المهمشون. هذه النماذج تُظهر أن التاريخ الحقيقي للبطولة لا يُكتب من فوق، بل من أسفل، من ضحايا الرق والمهمشين.

    السودان اليوم: الذاكرة كساحة صراع
    في السودان المعاصر، لن يكون هناك تأسيس حقيقي لوطن عادل ما لم يُعَد الاعتبار لأبطال الهامش وثوّاره، وما دام التاريخ الرسمي يواصل إعادة إنتاج هيمنة النخّاسة. فتمجيد النخّاسين وإطلاق أسمائهم على الشوارع والساحات ليس مجرد تشويه للذاكرة، بل هو أداة سياسية متعمدة لإعاقة المواطنة المتساوية، عبر الحيلولة دون الاعتراف بالمواطنة والعدالة التاريخية.
    إن معارضة النخب السودانية للمشروع العلماني ليست خلافًا فكريًا أو دينيًا عرضيًا، بل هي في جوهرها مقاومة لأي محاولة لتفكيك إرث النخاسة. فالعلمانية، بما تضمنه من مساواة كاملة بين المواطنين، تمثل الخطوة الأولى نحو كسر الامتيازات المؤسسة على الاستعلاء العرقي–الثقافي والديني. إنها الأداة المركزية للانحياز إلى مشروع سودان جديد يعترف بالضحايا بدلًا من تمجيد الجلادين. ومن هنا يصبح رفض العلمانية رفضًا صريحًا لفكرة المواطنة نفسها، وتشَبّثًا بذاكرة مشوَّهة تحمي امتيازات أحفاد نخّاسي الأمس.
    إن إعادة كتابة الذاكرة ليست ترفًا أكاديميًا، بل شرطًا وجوديًا للمستقبل: فإما مواجهة صريحة لإرث الرق والاعتراف بالضحايا وإعادة الاعتبار للمهمشين، أو البقاء في دوامة لا تنتهي من الحروب والانقسامات ودولة ممزقة تحرس امتيازات الماضي.

    أخيرا:
    ما لم يواجه السودان ماضيه العبودي مواجهة صريحة وجذرية، سيظل أسير نخبة تعيد إنتاج وهم التفوق من إرث نخاسي ملوَّث بالدماء والدموع والاغتصاب والبيع في الأسواق. هذه النخبة، التي تتفاخر بجدودها النخّاسين، لا تفعل سوى إعادة تدوير الظلم والتهميش كقدر أبدي لضحاياها ولذي يجب مقاومتها. فلسفة التاريخ تعلمنا أن الأمم التي تُبنى على الأكاذيب سرعان ما تنهار تحت ثقل تناقضاتها، وعلم السياسة يثبت أن الامتيازات الموروثة لا تزول بالصمت ولا بالتواطؤ، بل بالمواجهة والتفكيك. أما علم النفس الاجتماعي فيذكرنا أن التفاخر بالعار ليس شجاعة ولا قوة، بل قناع هش يخفي خوفًا عميقًا من الاعتراف بالضعف. إن التحرر الحقيقي يبدأ من مساءلة الذاكرة: من إعادة تسمية الشوارع التي تمجّد نخّاسي الأمس، إلى إعادة كتابة الكتب المدرسية كي تعيد الاعتبار للضحايا والمقاومين، لا للجلادين. ومن إسقاط "أحفاد الملاك" من مقام البطولة الأسطورية إلى مقام المواطنة العادية، حيث لا تفاضل بينهم وبين سائر أبناء الشعب إلا بالعمل والعدالة. عندها فقط يمكن أن يبدأ السودان في بناء وطنٍ جديد: وطن لا يرفع على أكتاف المستعبَدين، بل يقوم على كرامة الجميع ومساواتهم.

    النضال مستمر والنصر اكيد.

    (أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)























                  

09-30-2025, 11:24 AM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 51762

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: هل يمكن لشعبٍ أن يبني وطنًا جديدًا ومسالم� (Re: خالد كودي)

    تحية إجلال وتقدير يا خالد

    مقال ممتاز ومتميز.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de