لماذا ينزعج الدكتور الوليد آدم مادبو من لقب عرّاب الجنجويد؟ كتبه عبدالغني بريش فيوف

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 10-05-2025, 07:43 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-29-2025, 06:56 PM

عبدالغني بريش فيوف
<aعبدالغني بريش فيوف
تاريخ التسجيل: 10-26-2013
مجموع المشاركات: 591

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
لماذا ينزعج الدكتور الوليد آدم مادبو من لقب عرّاب الجنجويد؟ كتبه عبدالغني بريش فيوف

    06:56 PM September, 29 2025

    سودانيز اون لاين
    عبدالغني بريش فيوف -USA
    مكتبتى
    رابط مختصر





    يا لها من مفارقة تدعو للدهشة، بل للسخرية المرة، أن يجد المثقف نفسه في معترك يتشابك فيه السياسي بالدموي، والفكري بالميداني، ثم ينتهي به المطاف إلى أن يُلصق به لقب لا يطيقه ولا يستسيغه.
    إنها حكاية الدكتور الوليد آدم مادبو، والتي لا يبدو أنها مجرد حكاية شخصية، بل هي مرآة تعكس تلاوين المشهد السوداني المعقد، حيث تتراقص الحقائق على إيقاع المصالح، ويتبدل الولاء كألوان الطيف.
    لماذا يرفض د. الوليد آدم مادبو لقب 'عرّاب الجنجويد'، هل يريد الرجل أن يلعب 'بحبلين'، أم أنها الانتهازية الذكية؟
    هذا هو السؤال الذي نطرحه في هذا المقال، ليس كاتهام محض، بل كدعوة لتشريح خطاب يصدر عن شخصية تحمل ثقلا أكاديميا وسياسيا، بيد أن مواقفها العلنية تثير حولها لغطا يضعها في مرمى التساؤلات، فالرجل، حسب ما يشير إليه السياق، يُرى كمدافع شرس عن ميليشيا الدعم السريع "الجنجويد"، في شتى المحافل الدولية والإقليمية وولخ، ثم يعود ليرفض عن نفسه لقب "العرّاب" بشدة وحنق.
    إنها رقصة على حافة السيف، تتطلب من المتلقي أن يكون حذرا، بل ساخرا، في فهم ما يُقال وما يُضمر.
    يدخل الدكتور مادبو إلى ساحة النقاش مستشاطا، معتبرا إلغاء فعالية بروكسل محاولة يائسة لاغتيال الوعي، وهو يرمي تهمة عرّاب الجنجويد بالركاكة، ويسخر منها أيما سخرية، مؤكدا على تاريخه الطويل في مقارعة الإنقاذ منذ عام 2003.
    يقول مادبو، وبلهجة الواثق من براءته، أنا الذي وقفت في قلب حملة المناهضة للإنقاذ، شاهرا صوتي في وجه القتلة الحقيقيين (الكيزان المفسدين)، والذين اتخذوا من القبائل العربية ساعد عضلي لتنفيذ الإبادة الجماعية، أُتهم اليوم بأنني عرّابٌ لضحايا الحقبة الإنقاذية المقيتةّ!
    يا لها من براعة في اللف والدوران، ومن سحر في قلب الموازين، إنها حقا اللغة كفن إقناعي في أبهى صورها، أو ربما في أكثرها إثارة للريبة، فالدكتور مادبو يضع بين أيدينا لغما لفظيا حقيقيا، فإذا كانت القبائل العربية، هي الساعد العضلي الذي استخدمه الكيزان المفسدون لتنفيذ الإبادة الجماعية في دارفور (وهو قول يحمل وزنا كبيرا من الحقيقة التاريخية المؤلمة)، ثم إذا كانت الجنجويد (التي هي صلب ميليشيا الدعم السريع)، قد انبثقت تاريخيا من رحم هذه القبائل العربية وفي سياق هذا الدور، فكيف يمكن للمرء أن ينتقل بسلاسة من مقارعة من اتخذهم ساعدا عضليا إلى الدفاع عن هذا الساعد العضلي ذاته، أو عن من يُنظر إليهم كوارثين له، ثم يدعي أنهم ضحايا الحقبة الإنقاذية المقيتة؟
    هنا تكمن المفارقة الجوهرية، واللعبة السياسية التي تثير السؤال عن الانتهازية الذكية، هل يمكن أن يكون الساعد الذي استُخدم في الإبادة هو نفسه ضحية للحقبة التي استُخدم فيها، بالتأكيد، يمكن للمُستَخدَم أن يكون ضحية للسياق الذي أُجبر أو وُضع فيه، لكن هذا لا يمحو بالضرورة مسؤوليته عن الأفعال التي ارتكبها بصفته ذلك الساعد.
    إنها محاولة، وبكل صراحة، للفصل بين الجسد والفعل، بين الأداة والذنب، بطريقة تُريح الضمير النقدي وتُسهل عملية الاصطفاف الجديد.
    دعونا نتخيل المشهد بسخرية واضحة، ونقول، كان هناك جلاد يضرب ضحيته بسوط، الآن، يخرج من كان يلوم من أمر الجلاد بالضرب، ليدافع عن السوط نفسه، زاعما أن السوط كان ضحية لمن أمر باستخدامه.
    إنه منطق يحمل في طياته قدرا من العبقرية الساخرة، أو قدرا من الانتهازية السياسية التي تُلبس ثوب التحليل العميق.
    إن رفض لقب العرّاب هنا، ليس رفضا لاتهام شخصي بالضرورة، بل هو رفض لترسيم الدور الذي يُنظر إليه من الخارج، فالعرّاب هو من يرعى، يوجه، ويشرف، وهذا الدور، لو قبله مادبو، سيجعل منه شريكا فكريا لا يمكن له أن يتبرأ بسهولة من تبعات أفعال من يُعرّبهم.
    هو يريد أن يكون المُحلل، المُفسّر، المُنظّر الذي يُبرّر السياق، وليس العرّاب الذي يُقود الفعل، شتان ما بين الصفتين، والحد الفاصل بينهما رفيع كالشعرة، لكنه يُحدث فارقا جوهريا في الرواية السياسية.
    يواصل الدكتور مادبو هجومه على ما يسميه الدولة المركزية ومنابرها الإعلامية البائسة، متهما إياها بالتهرّب من مواجهة الحقيقة وبنشر خرافة الثنائية المخلّة، هذه الثنائية، كما يفسرها، هي تصوير الصراع على أنه صراع بين جيش وطني ومليشيا، وهو يرى أن هذا التوصيف يخدم الفلول لحجب حقيقة أن الجيش قد اختُطف وأصبح رهينة لخدمة مصالح الأخوان المسلمين، وأن الشعب إنما خرج طلبا للحرية والسلام والعدالة.
    هنا تبرز سخرية أخرى، لاذعة هذه المرة، فبينما يصرّ الدكتور مادبو على رفض الثنائية المخلّة بين جيش وطني ومليشيا، فإنه يبادر إلى استبدالها بثنائية أخرى، لا تقل حدة، إن لم تكن أشد استقطابا.
    إنه يصوّر الصراع على أنه بين جيش مخطوف ورهين للإخوان المسلمين من جهة، وشعب خرج طلبا للحرية والسلام والعدالة من جهة أخرى، مُضمِرا، بل مصرحا عبر موقفه الكلي، أن من يقف في صف الشعب المطالب بالحرية هم أولئك الذين يُتهمون بأنهم مليشيا.
    هذا التحوير في السردية هو جوهر اللعبة السياسية الذكية للدكتور مادبو، فبدلا من الرد المباشر على الاتهامات الموجهة للدعم السريع بكونها مليشيا ذات سجل حافل بالانتهاكات، يُصار إلى تفكيك الخصم (الجيش السوداني) عبر نزع صفة الوطنية عنه، ولصق تهمة الاختطاف الإخواني به، وهذا التكتيك ليس جديدا في حروب الروايات، ولكنه يصبح مثيرا للجدل عندما يأتي من لسان مثقف يُفترض به أن يكون فوق الاصطفافات المباشرة.
    ماذا لو نظرنا للأمر بمنظار ساخر، حيث الجيش، الذي كان طيلة عقود هو المؤسسة الأقوى، والضامن الظاهري لوحدة البلاد وسيادتها، أصبح فجأة رهينة بكل سهولة، وكأنه صندوق بريد بلا مفتاح، ومن هم الشعب الذين خرجوا طلبا للحرية والسلام والعدالة، هل هم كتلة واحدة متجانسة، وهل الدعم السريع (التي يرفض مادبو ربطه بالجنجويد كاتهام)، هي الممثل الأوحد والأمين لهذا الشعب، أو أنها مجرد فصيل آخر يرى في هذا الجيش المخطوف فرصة للاستيلاء على السلطة تحت راية تحرير الشعب؟
    إن رفض الثنائية المخلّة هو بحد ذاته فعل سياسي يهدف إلى إضفاء شرعية على طرف على حساب الآخر، لأن إذا لم يكن هناك جيش وطني (كما يزعم مادبو)، وإذا كان الطرف الآخر ليس مجرد مليشيا، بل هو ضحايا الحقبة الإنقاذية وممثلو الشعب المطالب بالحرية، فإن كل الفعل العسكري الذي يقوم به هذا الطرف الأخير يصبح مبررا، بل واجبا في سبيل التحرر.
    إنها براعة تزيين الواقع ليتناسب مع السردية المرغوبة، بغض النظر عن الدماء التي تسيل والخراب الذي يحل بالبلاد، أليس هذا، في جوهره، لعبا على حبلين، حبل التحرر الشعبي، وحبل تمكين فصيل مسلح.
    يتطرق الدكتور مادبو إلى مسألة رب الفور، في إشارة واضحة إلى الفريق عبدالفتاح البرهان، ويُذكر مادبو الفلنقايات، (وهو مصطلح له دلالات عنصرية ومهينة تشير إلى العبيد المطيعين لسادتهم)، ويقول بأن رب الفور هذا هو ذاته الذي أحرق القرى، ويتّم الأطفال، وأرمّل النساء، وقتل الشيوخ، بل وأمر بإبادة على قرية كاملة، ويذهب أبعد من ذلك، ليطالب بمعاملة أمثاله كمرتكبي جرائم الاعتداء الجنسي على الأطفال، لا كقادة سياسيين.
    يا لها من فصاحة في الهجوم، إنها فصاحة تهدف إلى تفكيك الخصم الآخر في الساحة، وإلى نزع أي شرعية أخلاقية أو سياسية عنه، فبينما يُمنح جانب معين (الذي يُتهم مادبو بالدفاع عنه) سردية الضحية والمُحرر، يُلصق بالجانب الآخر (متمثلا في رب الفور) أسوأ التهم وأكثرها بشاعة، وهذا التوزيع الانتقائي للاتهامات، ليس بريئا أبدا، بل هو جزء من معركة السردية الكبرى.
    السؤال الساخر هنا، هو، إذا كان مادبو ملتزما بهذا المعيار الأخلاقي الصارم الذي يطالب فيه بمعاقبة رب الفور على جرائمه المزعومة، فلماذا لا يُطبق هذا المعيار على كل الأطراف التي ارتكبت انتهاكات جسيمة في الصراع السوداني؟
    هل تُعامل القبائل العربية التي استُخدمت كساعد عضلي لتنفيذ الإبادة الجماعية بنفس الصرامة، أم أن كونهم ضحايا الحقبة الإنقاذية، يمنحهم نوعا من الحصانة أو يخفف من وطأة جرائمهم؟
    إن هذا الانتقاء في توجيه الاتهامات يدعو إلى الريبة، ويُظهر بوضوح أن الخطاب ليس محايدا بقدر ما هو موجه لخدمة أجندة سياسية معينة.

    ثم نأتي إلى الفلنقايات، السفير عبد الباقي حمدان كبير والمدير الأمني أحمد إبراهيم مفضل، يهاجمهم مادبو بضراوة، ويصفهم بأنهم يُستَخدمون لتغطية جرائم أسيادهم، وهو يرى نفسه ورفاقه يقتحمون المعترك الفكري والسياسي والأدبي لتحريرهم وأمثالهم من ذلّ الانبطاح ومن غياهب الهزيمة النفسية والمعنوية.
    إنه تجسيد متكلف لدور المخلص، وصورة المثقف الذي يُلقي على عاتقه مهمة إنقاذ المغفلين أو الخونة من براثن أسيادهم، لكن من هم الأسياد في هذه الحالة؟
    هم بلا شك قيادات الجيش السوداني، والفلول والكيزان، والسؤال المبطن بالسخرية هنا، هو، هل تحريرهم يعني بالضرورة دفعهم نحو الانضمام إلى معسكر مادبو الفكري والسياسي، والذي يُنظر إليه على أنه مُبرّر لميليشيا الدعم السريع؟
    هل الحرية الوحيدة المتاحة، هي التحرر من ولاء للكيزان إلى ولاء للسردية التي يقدمها المثقف المستنر الوليد مادبو؟
    إن هذا الهجوم على الفلنقايات، ليس مجرد غضب أخلاقي، بل هو محاولة ذكية لفك الارتباط بين الرموز التي تمثل الدولة المركزية والجمهور المستهدف، إنه نزع للشرعية عنهم، وتجريدهم من أي صلاحية لتمثيل قواعدهم، ليصبح مادبو ورفاقه، هم المتحدثون الشرعيون باسم الوعي الجديد.
    إنها مناورة بارعة، تضع مادبو في موقع المنقذ الفكري الذي يرى الحقيقة بوضوح، بينما الآخرون إما قتلة أو ضحايا جهل بحاجة لإنقاذ.
    دارفور ..المستوطنة الأخيرة والمدينة الآثمة: الاستشهاد بالماضي لتبرير الحاضر..
    يستشهد الدكتور مادبو بأعماله السابقة، مثل كتابه دارفور المستوطنة الأخيرة (2012)، ليؤكد أن الصراع في جوهره ليس بين عرب وزرقة، ولا بين قبائل وجهات، بل بين منظومة استعلاء مريضة ومجتمع يتوق للتحرر من ربقة العبودية، ويذكر أيضا قوله عن الخرطوم بأنها لم تكن عاصمة وطن بقدر ما كانت مختبرا لإعادة إنتاج الإقصاء والفساد.
    إن هذه التوصيفات، في حد ذاتها، تحمل قدرا كبيرا من الحقيقة والتحليل العميق لجذور الأزمة السودانية، فمن الصعب إنكار أن السودان عانى طويلا من منظومة استعلاء مريضة وإقصاء وفساد متجذرين، ولكن السؤال الساخر الذي يفرض نفسه هنا، هو: كيف يتم الاستفادة من هذه الحقائق التاريخية لتبرير الأفعال الراهنة؟
    وهل الدعم السريع، التي يرى مادبو في منسوبيها ضحايا الحقبة الإنقاذية، هي حقا الأداة المثالية لتحقيق التحرر من هذه المنظومة المريضة؟
    إن التاريخ، يا الدكتور مادبو، يمكن أن يُستخدم كمرآة عاكسة، أو كعدسة مكبرة، أو للأسف، كستار سميك لإخفاء بعض الحقائق المزعجة، عندما تُبرز أن الصراع ليس بين عرب وزرقة، فهذا تحليل يدعو إلى الوحدة، لكن عندما تتخذ موقفا يراه كثيرون داعما لفصيل ذي أغلبية إثنية معينة في صراع دموي، فإن هذا التحليل يفقد بعضا من بريقه وحياديته المزعومة.
    إن ربط دارفور بالمستوطنة الأخيرة وتصوير الخرطوم كمختبر للإقصاء والفساد، ليس إلا محاولة بارعة لوضع الصراع الحالي في سياق تاريخي أوسع، سياق يجعل من الدعم السريع، ليست مجرد مليشيا تسعى للسلطة، بل جزءا من حركة تاريخية أعمق ضد الظلم والاستعلاء.
    إنها إعادة التأطير بامتياز، فبدلا من أن يرى على الاقل الحكاية بين طرفين يتصارعان على السلطة، يُدعى المشاهد أو القارئ إلى رؤية معركة تاريخية بين القهر والتحرر، حيث يكون أحد الطرفين، وبطبيعة الحال، هو ممثل التحرر.
    يستشهد الدكتور مادبو بإدوارد سعيد، قائلا: المثقف الحقيقي، هو من يقول كلمة الحق في وجه السلطة، لا من يزين للسلطة وجهها القبيح، ويضيف، أن الحياد في لحظة الطغيان خيانة، وأن مجرد الصمت يُعد تواطئا، ويرى نفسه في هذا المقام، معلنا أنه ليس صوته الفردي ما يُرعب الفلول، بل صورة جيل كامل يعبر عن وعي جديد، يتجاوز الانقسامات المصطنعة، ويرفض التمايز القبلي والإثني، ويمضي نحو مشروع وطني جامع قوامه المواطنة والعدالة المتساوية، ويختم بالتأكيد أن دولة المواطنة آتية، وأن زمن الفاشية الدينية أو الوطنية قد ولّى.
    يا لها من كلمات سامية وراقية، ويا لها من رؤى نبيلة، إنها دعوة للعدالة والمواطنة والتحرر، وهي في جوهرها ما يتمناه كل سوداني يرى وطنه يُذبح على مذبح الصراعات، ولكن هنا تكمن السخرية الأشد قسوة، وهي، هل المثقف الذي، يرى الحياد خيانة، يطبق هذه القاعدة على كل أشكال الطغيان، أم يختار الطغيان الذي يناسب اصطفافه السياسي؟
    إذا كان المثقف الحقيقي يقول كلمة الحق في وجه السلطة، فأي سلطة يتحدث عنها مادبو، هل هي سلطة الجيش المخطوف فقط، أم أن هناك سلطات أخرى تبرز في المشهد السوداني، سلطات مسلحة، سلطات قبلية، سلطات اقتصادية، قد تكون هي الأخرى بحاجة لمن يقول كلمة الحق في وجهها؟
    أليس الصمت عن انتهاكات طرف معين، أو تبريرها بسردية الضحايا والتحرر، نوعا آخر من التواطؤ أو على الأقل التحيّز الذي يخرج المثقف عن دوره النقدي الشامل؟
    إن الحديث عن جيل كامل يعبر عن وعي جديد ومشروع وطني جامع، هو حلم كل مفكر ومناضل، لكن الواقع السوداني، بمرارة قسوته، يطرح سؤالا لاذعا: هل يمكن أن يُبنى هذا المشروع الوطني الجامع على أنقاض العنف والفوضى التي تُمارسها الأطراف المتصارعة، دون نقد ذاتي حقيقي لكل الأطراف؟
    وهل يمكن لدولة المواطنة أن تنهض على أكتاف مليشيا تُتهم بارتكاب فظائع، حتى لو كانت هذه المليشيا ترى نفسها ضحية أو محررة؟
    إن رفض مادبو للفاشية الدينية أو الوطنية، هو موقف مبدئي متقدم وجدير بالاحترام، ولكن هل يضمن البديل المطروح أن لا نقع في فاشية من نوع آخر، فاشية مسلحة، أو فاشية قبلية، أو فاشية تلبس ثوب التحرر لتفرض واقعا جديدا بالقوة؟
    إن هذا هو السؤال الجوهري الذي يضع كل الأطروحات النبيلة على محك الواقع المرير.
    يختتم الدكتور مادبو مقالته بالإشارة إلى نفسه وإلى أحمد تقد، قائلا: فها هما الوليد مادبو (الرزيقي) وأحمد تقد (الزغاوي) في منصة واحدة يجدان الحيلة في الكلمة وليس البندقية: الكلمة التي تكشف زيف الفلول، وتفضح فساد خطابهم، وتذكّر الناس أن السودان ليس رهينة إعلام مأجور، بل وطنٌ يستحق حياة أرقى وعدالة أوسع.
    يا لها من صورة شعرية مؤثرة، رجلان من قبيلتين تاريخيا على طرفي نقيض في صراع دارفور، يجتمعان على الكلمة لا البندقية، ولكن هنا تكمن اللدغة الساخرة، لأنه إذا كانت الحيلة في الكلمة، فلماذا يبدو أن هذه الكلمة تخدم بشكل مباشر، أو تبرر على الأقل، أفعال من يستخدمون البندقية بكثافة؟
    إن الكلمة، إذا تناسى الدكتور المستنير، سيف ذو حدين، يمكن أن تُنير الدروب، ويمكن أن تُضلل العقول، يمكن أن تُفضح الزيف، ويمكن أن تصنع زيفا جديدا أكثر دهاءا، عندما تُستخدم الكلمة لتبرير أفعال البندقية، أو لتغيير توصيف من يحملها من مليشيا إلى ضحايا أو محررين، فإنها تفقد جزءا من براءتها ونبلها.
    إن إظهار الرزيقي والزغاوي على منصة واحدة، هو رمز قوي جدا، وقد يُنظر إليه كدعوة للوحدة وتجاوز الانقسامات، ولكن هل هذه الوحدة هي وحدة فكرية مستقلة تهدف إلى بناء سودان جديد، أم أنها وحدة تكتيكية تهدف إلى بناء سردية تدعم طرفا معينا في صراع السلطة الدموي؟
    هذا هو جوهر الانتهازية الذكية التي أشار إليها السؤال، هي ليست انتهازية بالمعنى التقليدي للسعي وراء المال أو المنصب فحسب، بل هي انتهازية فكرية، تستغل الحقائق التاريخية والآلام الشعبية والخطابات النبيلة لتُلبسها ثوبا يُناسب لحظة سياسية معينة.
    يختم الدكتور مادبو مقاله بتحد صريح لتلفزيون السودان ومحاولات الاغتيال الرمزي أو المعنوي للأشخاص، مؤكدا أنه ومعه كثيرون، لن يتراجعوا عن قول ما يؤمنون به، وهو أن دولة المواطنة آتية، وأن زمن الفاشية الدينية أو الوطنية قد ولّى.
    هذا التحدي، وهذا الثبات على المبدأ، هو ما يُفترض بالمثقف أن يتمتع به، ولكن دعونا نتساءل، إذا كان تلفزيون السودان، مفلسا أخلاقيا، بائسا فكريا، ويوزع الألقاب كما يشاء ويشيطن الأصوات التي تؤرق نوم أسياده، فهل يختلف كثيرا عن أي منبر إعلامي آخر، أو أي خطاب سياسي آخر، يُوظف اللغة والألقاب والتوصيفات ليخدم أسياده أو مصالحه أو أجندته؟
    إن مادبو نفسه، ببراعته الخطابية، يقوم بتوزيع الألقاب والتوصيفات، شمالا ويمينا، ويصف قيادات بـالفلنقايات"، ويلصق تهما قاسية، وفي المقابل، يُبرئ القبائل العربية التي كانت ساعدا عضليا ويحوّلها إلى ضحايا.
    أليس هذا نوعا من توزيع الألقاب وشيطنة الأصوات من منظور آخر؟
    رفض مادبو لقب عرّاب الجنجويد، ليس إنكارا لارتباط خطابه بميليشيا الدعم السريع، بل يرفضه، لأن ذلك الوصف يقتل غلافه الرمادي ويكشفه كلاعب منحاز، هو تمرين على الانتهازية الذكية، دعم عملي دون تحالف معلن، وتحويل المعركة من سجال حول جرائم إلى سجال حول سردية وطنية جامعة.
    في النهاية، قد يسقط اللقب في الخطاب الرسمي، لكن التاريخ يسجل الأدوار بوضوح، وسيبقى السؤال حاضرا، إذا لم يكن هذا دفاعا عن الجنجويد، فما هو الدفاع إذن؟
    في الختام، لماذا يرفض الدكتور الوليد آدم مادبو لقب "عرّاب الجنجويد"، فالإجابة، من خلال تحليل خطابه، ليست بسيطة بقدر ما هي معقدة، وتتقاطع فيها خيوط السياسة والفكر والانتهازية ببراعة:
    1/ رفض للتبسيط المخل: يرفض مادبو اللقب لأنه يختزل دوره الفكري والسياسي الطويل في خانة ضيقة ومُدانة، وهو يرى نفسه محللا لظاهرة تاريخية أعمق، لا مجرد داعم لفصيل مسلح
    2/ إعادة تعريف للذات والآخر: يسعى مادبو جاهدا إلى إعادة تعريف الجنجويد أو الدعم السريع من مليشيا إلى ضحايا للإنقاذ، أو محررين من الجيش المخطوف، ورفضه للقب العرّاب، يجنبه الارتباط المباشر بالصورة السلبية التي يحملها اللقب، ويمنحه مساحة ليكون المُنظّر الذي يُشرّع لهم، لا المُشغل الذي يوجههم.
    3/ تكتيك اللعب على الحبال: نعم، يمكن القول إنه يلعب بحبلين، ولكن بذكاء شديد، فهو يمسك بالحبل التاريخي والأكاديمي والتحليلي ليُبرر به الاصطفاف السياسي والميداني مع طرف معين.
    هذا ليس لعبا ساذجا، بل هو فن الإقناع السياسي الذي يستعير من التاريخ والعدالة والمواطنة كلمات لتغطية اصطفاف قد يراه البعض انتهازيا.
    4/ الانتهازية الذكية: هي بالضبط كذلك، إنها انتهازية لا تسعى فقط للمكاسب المادية، بل تسعى لتأطير الواقع بما يخدم رؤية معينة، وتحويل الخصوم إلى أعداء للشعب، والداعمين إلى ضحايا ومحررين.
    إنه استخدام بارع للغة، ولتاريخ السودان المعقد، ولحقيقة أن الجيش السوداني قد كان متورطا في انتهاكات تاريخيا، وذلك لتبرير ما تقوم به ميليشيا الجنجويد.
    في النهاية، إن مقال الدكتور الوليد آدم مادبو ليس مجرد دفاع عن النفس، بل هو بيان سياسي شامل، يسعى إلى إعادة تشكيل الوعي العام حول الصراع في السودان، ورفضه للقب عرّاب الجنجويد، ليس سوى جزء من هذه الاستراتيجية الأكبر، استراتيجية تهدف إلى تغيير دلالات الكلمات، وإعادة تعريف الأدوار، وتقويض شرعية الخصم، كل ذلك تحت راية الكلمة والوعي والحقيقة، ولكن، الدكتور مادبو نسى، فالحقيقة، مثلها مثل النهر، لا يمكن أن تحبس في قوارير صغيرة، ولا يمكن أن تتغير مجاريها بمجرد قوة الخطاب، لأن ما يبقى في الذاكرة الجمعية، هو ما تراه العين وتلمسه اليد، بغض النظر عن سحر الكلمات.
























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de