على مدار أسبوع اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعية في العاصمة الإدارية للسودان بعواصف من التعليقات والاستنكارات وعلامات الاستفهام الحائرة بقضية هبة صبية (حي الشاطئ) بورتسودان التي لا يتجاوز عمرها 16 عاما والتي اختفت في ظروف غامضة أثناء عودتها من المدرسة ..وظلت لغزا عصي التفسير لأسبوع وكأن الأرض انشقت وابتلعتها وانفتحت السماء لكل الاحتمالات بعد طول انتظار بين الاعتداء عليها والمتاجرة بأعضاء من جسدها ضمن تجارة جديدة وافدة راجت اسمها تجارة الأعضاْء . وكان من الطبيعي أن يخطف الخبر المأسوي الصاعق الأضواء من التطورات الدراماتيكية الأخيرة للحرب اللعينة وظل الجميع يرخي اذنيه لسماع نهاية لا يهم ان كانت حزينة أو سعيدة وكالعادة توجهت كل السهام السامة الى أجهزة الشرطة دون رحمة رغم للظروف التي تعمل فيها هذه الأجهزة والتحديات التي تجابهها والتي يعرفها الجميع بصدور عارية الصدر من الإمكانيات والمعينات وهي تطارد جحافل من الجرائم والانفلاتات منها عصابات 9 طويلة والطوابير الخامسة والوجود الأجنبي في دولة تخوض حربا تتناسل السنين والشهور للبقاء على قيد الحياة أو الفناء من الوجود في ظروف بالغة التعقيد ولكن ستر الله ولطف بعباده فتنفس الجميع الصعداء بإعلان الأجهزة الأمنية العثور على الصبية . (2) بيان الشرطة وان كان قد أعلن ان المراهقة بخير وفي صحة جيدة الا انه جاء خاليا من توضيح ملابسات الحادث الغامض بل لم يكشف النقاب عن حقيقة الجريمة والجهات التي ورائها حتى لاتخاذ خطوات الحيطة والحذر. الخلاصة أن المجتمع السوداني يعيش وسط أزماته التي يعرفها القاصي والداني تحولات ثقافية ومطبات اجتماعية خطيرة كما أكدت قصة هبة فهو مجتمع جبل على تعليق مهمة التصدي لهذه المهام مهما كانت ضخامة نتائجها الى السلطات التي تدير الأمور ومساهماته هنا في رفع الضرر ونقولها بالفم المليان لا تشاهد بالعين المجردة ولعل هذا سبب هذا المقال فلأسباب كثيرة منها ضعف الوعي وانتشار الجهل وثقافة التخلف فأن أصوات الاستنكار والاستهجان دائما تتعالي في الفضاء العام الى جهة تتحمل وحدها أوزار ما حدث حتى لو كانت مسؤوليات لا تتحمل عبئها الجبال الراسيات منها بسط الأمن ومحاربة الجريمة ونظافة البيئة وتوفير الخدمات بكل أشكالها والارتقاء بنوعيتها . (3) المفارقة هنا تكمن في تناقض القناعات بين الحكومة والوطن الكامنة في الذهنية السودانية والدليل ان المواطن الذي يشكو تردي البيئة وشيوع التلوث هو نفسه الذي يرمي بقوارير المياه كيفما اتفق ويطلق حيواناته الأليفة في الشارع العام والذي يكتب التذكارات على مواقع التراث هو نفسه الذي يشكو لطوب الأرض عن قصور هيئة الآثار وعدمية دورها والذي يحرص على نظافة بيته هو نفسه الذي لا يكترث بالمكتب الذي يؤدي فيه عمله ولا بالشارع الذي يطل علي بيته ولي تجربة مريرة تستدعي التعليق هنا وهي ان جيراني في حي ترانسيت وآخرون من خارج الحي جعلوا الميدان الكبير الذي يتوسط الحي مكب نفايات بإلقائها خارج البرميل المعد لجمع الأوساخ وحينما لم تجدي المناشدات حتى من أمام المسجد كتبنا الى مدير الصحة بسحب البرميل من المكان . (4) الحديث هنا عن مجتمع هش يعلو فيه انتماء الذات على الانتماء للوطن لن نجد براهين تؤكد هذا المنحى أكثر مما ارتكبته مليشيا الدعم السريع من جرائم سلب ونهب ممتلكات المواطنين وتدمير ممنهج للبنية التحتية لمقدرات وطن تم تشييدها عبر عشرات السنين ومن جيب المواطن وهي تسعى للانتقام من الحكومة (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا ) ..في الشقيقة مصر هناك عشق نادر والعبارة الشائعة هناك هي (مصر ام الدنيا) فهاهي عفاف راضي تغني (مصر هي أمي نيلها هو دمي ..شمسها في سماري ..شكلها في ملامحي ..حتى لوني قمحي ..لون خيرك يا مصر. ما تلاقيش مثالها ست كل عصر. ضلة جنب نيلها تسوى ألف قصر ..فاتك نص عمرك ياللي ماشفت مصر ) وهاهي أيضا شادية تترنم من كلمات محمد حمزة ( ماشفت الأمل في عيون الولاد وصبايا البلد ولا شاف العمل سهران في البلاد والعزم اتولد ولا شاف النيل في أحضان الشجر ولا سمع مواويل في ليالي القمر أصلو ماعداش على مصر يا حبيبتي يا مصر ) ..لو ألقيت عقب سجارة في احد شوارع إنجلترا فوزارة الصحة لا تتدخل ولكن يحملها مواطن ويرميها في سلة القمامة ثم يلقي عليك فقط نظرة اشفاق وينصرف . (5) نحن نعيش في مجتمع انقلبت فيه الموازين وجرت فيها المياه تحت الجسور وفوق الجسور و استأسدت العزلة في ربوعه فلم نعد نرى الأب الذي يوجه أطفال الشارع لتوخي السلوك الحسن في الشارع بل ينهرهم بالكف عن لعب الشوارع والتوجه الى بيوتهم ولم يعد الجيران يتبادلون صحون الطعام بل ان علاقات الجوار لا تتعدي الجار اللصق ..وحتى على نطاق العلاقات الحميمية فقد انتهى دور الحبيبة التي تغزل منديل حرير لحبيب بعيد كما يقول صلاح أحمد ابراهيم بل أستبدل الحبيب الباب بالنافذة في علاقته بالحبيبة وتقول تقول الكاتبة داليا الياس أنه بعد تعارف عن طريق الواتس والماسينجر يعود (المكتول كمد) بعد مدة لا تتجاوز 10 دقائق ويقول لها أحبك وفي المساء يشاهد الثنائي وهما يتجرعان العصائر في أحد الكافيهات . (6) في قصة الشابة هبة وغيرها من القصص والروايات والممارسات هناك الكثير من العبر والدروس التي بمكن الاستفادة منها وكلها تصب في خانة خلق وتأصيل ثقافة لدور أكثر ايجابية للمجتمعات في درء الجريمة ومحاربة السلوكيات السالبة بتفعيل دور الاسرة في الرقابة اللصيقة على الأبناء فضلا عن تفعيل دور الأئمة في تربية النشء وتقوية أواصر التمسك بالقيم الدينية بتبصير الشباب بأسباب الضياع من واقع التجارب الملقاة تحت الأقدام الناتجة من الانحرافات بدلا من الوعظ النمطي التقليدي الذي لا يحل ولا يربط ..وتكون الأسئلة المطروحة أين يقضي الابن وقته ومن هم زملاءه ومدى مداومته وحرصه على قضاء الفرائض كالصلوات وغيرها مع وضع قيود صارمة على الخروج والعودة في أنصاص الليالي بحيث يتم قفل الأبواب بعد العاشرة مساءا ولجمهورية فنلندا التي تقع في خاصرة المتجمد الشمالي تجربة رائدة يمكن حذوها والاسترشاد بها في مجال محاربة المخدرات ..نفس هذا ينسحب أيضا على الحفاظ على حماية ونظافة البيئة ودراسة الجرائم العابرة التي تتعارض مع أعرافنا كقضية هبة فهل هي لانتهاك حرمتها او المتاجرة بأعضائها كما هو الحال في مصر. (7) كيف نخلق ثقافة لتمكين المواطن للعب دور أكثر إيجابية في قضايانا رغم الاعتراف بدور الحكومات وفي إطار حالنا نحن كشعب يرزح تحت أعباء استثنائية غير مسبوقة ناتجة عن تسخير الحكومة 85% من إمكانيات الدولة لتمويل آلة حرب لعينة قد يختلف الناس كيف بدأت ولكن لا أحد على دراية متى ستضع أوزارها ولكن مهما كانت الاحتمالات فلن يحك ظهرك الا ظفرك فالله يقول في محكم تنزيله (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ (. من الذي نراه ونعيشه أن السودانيون اما أنهم لم يسمعوا بهذه الآية أو أنهم لا يعترفون بها والعياذ بالله.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة