لم يفاجئني إلغاء الفعالية التي كان من المفترض أن تُعقَد في بروكسل؛ فالدولة المركزية ومنابرها المعتادة لا تعرف سوى لغة الهروب من المواجهة. هم يفضِّلون المسارح الدبلوماسية المزيفة على منابر الحقيقة، ويختارون الابتزاز السياسي بدلًا من مناظرة فكريّة صريحة تكشف زيفهم. وفي هذا المشهد الرديء، يبرز مقال د. الوليد مادبو كصرخة منطقية تتحدى الخَرَفَ الإعلامي، وتعيد إلى الواجهة ما يجب أن يُقال بكل وضوح: الحق لا يُسكت بالقمع ولا يُطوى بالشتائم. مادبو لم يخرج من فراغ؛ هو من عرفناه يقف ضد آلة الإبادة والفساد منذ زمن. الحديث عن «عراب الجنجويد» كبادرة تشويه ليست سوى محاولات يائسة لتفريغ كلامه من محتواه، وتحويل مواجهة التاريخ إلى مشاجرة عابرة تليق بصحافة مأجورة، لا بمؤسسات فكرية تحترم نفسها. أن تُتهم من وقف في المحافل العالمية من أجل حقوق الضحايا بأنك «عرّاب الجنجويد»؟ هذه سخفية لا تحتاج إلا أن تُضحك السامع لو لم تكن في حقيقتها محاولة لشيطنة المدافع عن الكرامة. مادبو يقول ما يجب أن يقال: الخرطوم لم تكن يومًا عاصمة وطن بالمعنى الذي يفهمه المواطن، بل كانت مختبرًا لإعادة إنتاج الإقصاء والفساد؛ ومَن يملك الذاكرة لا يملك إلا أن يُصرح بأن زمن الاستعلاء العرقي قد انقضى. كلامه ليس عن حقدٍ عرقي، بل عن رفض الاستعلاء وعن دفاعٍ عن كرامة إنسانٍ سُلبت منه حقوقه. ومن حق دارفور أن تنهض لا بوصفها بؤرة للصراع، بل كرمز للحرية والكرامة التي تستحقها كل أرض سودانية. ما يزعج الفلول ليس مجرد كلام مادبو؛ ما يزعجهم أن صوتًا متينًا يفضح قتلهم وتبريراتهم، وأن هناك جيلاً جديدًا يقول: لا مزيد من الرقص على جراحنا. الفلول يخشون العقل الذي لا يتنازل، والصوت الذي لا يمكن تسويقه بالشيطنة. لهذا أُسكتوا الحدث في بروكسل، وهذا ما يجب أن نقرأه بوضوح: ليس إسكاتًا لمادبو وحده، بل محاولة لإسكات فكْرٍ وغيرٍ يرفض أن يُستخفّ به الشعب. ومن هنا تكمن شجاعة مادبو الحقيقية: أنه لم يكتفِ بالتنديد، بل قدّم تفسيرًا ذا صلة: أن المشكلة ليست بين عرب وزرقاء، بل بين من يريد دولة مواطنة وعدالة، ومن يريد دولة مزرعة لامتيازات أقلية؛ وأن الحل لا يمر عبر مزيد من المحاباة أو الاستعلاء، بل عبر إرساء مفهوم المواطنة الحقيقية وفك الارتباط بين السلطة والقبيلة والبحث عن مشروع وطني جامع. انتقاد مادبو للمنابر المأجورة والسفراء الذين يتحولون إلى أدوات تبرير ليس رأيًا مقطوعًا، بل قراءة واقعية لمشهد تحكمه مصالح خارجية وداخلية معًا. هؤلاء الذين يسمون أنفسهم سفراء أو وسطاء سياسيين، كثيرًا ما يتحولون إلى درعٍ للحماية لتغطية جرائم وليس وساطة للسلام. وأن تُستخدم مصطلحات مثل «فلنقايات» و«الرزيقي» و«الزغاوي» في سياق نقدي لتمرير الفساد، فهذا لا يشي بالعنصرية بقدر ما يشي بقدرة الكاتب على تمييز المستندات التاريخية عن خطاب المصالح. ولنكن واضحين: إسكات مادبو اليوم لن يمحو ملف الجريمة الذي ارتكب بحق دارفور وشعبها. لا تضييع للذاكرة: معسكرات الإبادة، والنهب، والتهجير، ليست مجرد شواهد ماضية، بل سلوكيات متكررة يعيد إنتاجها من يريد أن يحتفظ بالسلطة عبر أدوات الموت والفساد. ومن يبرر وجود «حماية قبلية» أو «قيادات إثنية» في مواقع القرار، هو من يشيّد أسباب الصراع لا من يداويها. ما يُحسب لمادبو أنه لا يمارس الانقسام، بل يدعو إلى مشروع وطني؛ مشروع لا يبنى على تهميش أو انتقاص من مقام أي مكوّن، بل يبني مؤسسات تحمي الكل. وقد تكون لغته حادة، لكن الحدة في زمن الانتهاك فضيلة؛ لأن الكلام اللين أمام آلة القمع لا يغير شيئًا من معاناة الضحايا. وبينما يشيطنهم إعلام النظام و«الفلنقايات»، نجد الناس على الأرض يرددون ما قاله مادبو بصيغتهم البسيطة: لا نريد أن تُعاد جراحنا، لا نريد أن تُختزل هويتنا في مشروع مصفوفات قَبَلية. المطلوب الآن أكثر من تصريحات؛ مطلوب عمل سياسي مدني حقيقي، ومسارات قابلة للتنفيذ تؤمن العدالة والمساءلة وإعادة الحقوق لأصحابها، لا صفقات تُبرم خلف الأبواب لحماية الفلول وتمكينهم من مزيد من السلب. في نهاية المطاف، من يظن أن إلغاء فعالية في بروكسل يغيّر شيئًا من حقيقة الشعب، مُخطئ؛ إن الذي يخيفهم هو الفكر الحر، وهو الصوت الذي لا يجامل، والموقف الذي يرفض تبرير القتل باسم الوطنية أو الدين. مادبو لم يأتِ ليقول مجرد كلام، بل ليؤكد أن الحرية لا تُعطى من منابر الفلول، بل تُنتزع عبر وعي جماعي ونضال سلمي ومنظّم. ومن هذا المنطلق أقف بجانب مادبو: لأن الوقوف مع الحق واجب قبل أن يكون موقفًا سياسياً. لأن من يريد أن يدافع عن السودان يجب أن يقف ضد كل ما يكرّس الاستعلاء والفساد، وأن يصوغ البديل بوضوح وشجاعة. ولأن إلغاء فعالية في بروكسل لن يسكت التاريخ، ولن يوقف المد الذي يطالب بالعدالة والمواطنة الشاملة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة