يُعد مفهوم تكافؤ القوى أو ( Balance of Power ) من الركائز الأساسية في النظرية الواقعية للعلاقات الدولية . فمنذ صلح ويستفاليا وحتى مرحلة الحرب الباردة ظلّ هذا المفهوم حاضرا لتفسير صعود الدول وسقوطها ، وكذلك لفهم طبيعة التحالفات والاصطفافات بين القوى الكبرى .
لكن التطورات الأخيرة في النظام العالمي ، ومع تراجع الأحادية القطبية الأميركية وبروز ملامح تعددية قطبية جديدة ، كشفت أن الندية الحقيقية لا تُبنى بالقوة الصلبة وحدها ، وإنما بالحوار القائم على الاعتراف المتبادل بالمصالح . وفي هذا الإطار ، يظهر السودان مثالًا حيّا لصراع النفوذ الدولي ومختبرا عمليًا لإشكالية غياب التكافؤ في الممارسة السياسية .
فمن الناحية النظرية ، يرى الواقعيون أنّ استقرار النظام الدولي يتحقق من خلال توازن الردع بين القوى الكبرى ، بينما يعتقد الليبراليون أنّ الحوار المؤسسي والقانون الدولي يوفران بديلًا أكثر ديمومة . أما على أرض الواقع ، فقد أثبتت التجارب أنّ الهيمنة القسرية تفرض خضوعًا مؤقتًا لكنها لا تخلق شرعية دائمة ، إذ يسعى الطرف الأضعف دومًا لتقوية قدراته أو بناء تحالفات جديدة لتعديل الكفة . لذلك فإن التكافؤ القائم على الحوار يبدو أكثر فاعلية من الإخضاع بالقوة ، لأنه ينتج استقرارًا طويل المدى قائمًا على الشرعية لا على الإكراه .
هذا المنطق ينعكس بوضوح على المشهد السوداني . فالسودان اليوم ساحة مفتوحة لمصالح متعارضة . الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يركزان على ملفي البحر الأحمر والهجرة غير النظامية ، ما يجعل موقفهما متأرجحا بين العقوبات والدفع نحو الحوار . روسيا من جانبها تسعى لترسيخ وجود بحري دائم في بورتسودان ، بينما ترى الصين في السودان محطة مهمة ضمن مبادرة ( الحزام والطريق ) . أما السعودية والإمارات ومصر فلها حسابات استراتيجية مختلفة لترسيخ نفوذها ، سواء عبر وكلاء محليين أو تفاهمات مباشرة مع أطراف الصراع . هذه التعددية جعلت من السودان ميدانا للتنافس ، في وقت تفتقد فيه القوى المحلية القدرة على فرض معادلة مستقرة بالقوة وحدها ، ما يجعل الحوار المتكافئ ضرورة لا خيارا .
لكن التحدي الأكبر يظل داخليًا . فالانقسام بين الجيش والدعم السريع ، وغياب إطار سياسي جامع ، أدخلا السودان في المعادلة الدولية ضعيفا ومفتّتا. هذا التفكك عزّز الارتهان للخارج ، إذ تعاملت الفصائل مع القوى الدولية كسند لتحقيق تفوق مرحلي على الخصم ، من دون إدراك أنّ ذلك يضعف الموقف الوطني في مجمله . النتيجة كانت غياب الندية التفاوضية أمام القوى الكبرى ، وفتح الباب أمام حلول تُفرض من الخارج وتعيد إنتاج التبعية .
الحوار في الحالة السودانية لا يعني فقط تسوية بين طرفي الصراع العسكري ، بل يتطلب أولًا بناء إطار داخلي موحد يجمع القوى المدنية والمجتمعية والفصائل المسلحة المعتدلة في وثيقة تفاوضية مشتركة . كما يتطلب تحالفات ذكية تستفيد من التنافس الدولي لمصلحة السودان ، عبر وضع شروط واضحة لأي دعم أو استثمار . وإلى جانب ذلك ، يحتاج السودان إلى خطاب استراتيجي جديد يقدمه كشريك مسؤول ، بما يعزز من شرعية موقفه التفاوضي .
مستقبل السودان يمكن أن يتجه نحو ثلاثة سيناريوهات. الأول هو استمرار الإخضاع بالقوة عبر وكلاء إقليميين ، وهو ما يعني استمرار النزيف وفقدان السيادة . الثاني هو خيار الحوار المتكافئ ، عبر توحيد الجبهة الداخلية وطرح مبادرة وطنية شاملة مدعومة بضمانات إقليمية ودولية ، ما يحوّل السودان من موضوع للتنافس إلى طرف فاعل في التفاوض . أما الثالث فهو سيناريو الجمود ، حيث لا يُحسم الصراع عسكريًا ولا تفاوضيا ، فيدخل السودان مرحلة ( المنطقة الرمادية ) التي تُدار بتحالفات مرحلية .
لذلك إن تكافؤ القوى في العلاقات الدولية يجب أن يقوم على الحوار المؤسسي الذي يعترف بالمصالح المشتركة ويحوّلها إلى عقود سياسية شرعية وليس إعتمادا على القوة فقط . بالنسبة للسودان ، فإن الطريق للخروج من أزمته يبدأ بإعادة بناء الداخل وصياغة موقف تفاوضي موحد ، واستثمار التنافس الدولي لصالح التنمية والسيادة بدلاً من الارتهان للأجندات الخارجية . وفي هذا السياق ، يبرز ( تحالف التأسيس ) كجسم شرعي قادر على صياغة مشروع وطني جامع يضع السودان في موقع الفاعل لا المفعول به ، ويفتح الباب أمام عقد وطني جديد يقوم على السيادة السودانية الخالصة – سوداني / سوداني – بعيدًا عن الوصاية الأجنبية .
إن الرسالة الجوهرية لأي مسار تفاوضي يجب أن تكون واضحة المعالم : السودان ليس موضوعًا للتقسيم أو الهيمنة ، بل كيان سيادي يُعاد تأسيسه من الداخل بإرادة وطنية حرة ، لتكون شراكاته الخارجية امتدادًا لقراره الوطني لا بديلًا عنه .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة