تفاهة المحتوى… حين يتحوّل الفضاء الرقمي إلى مستنقع
يكفي أن تقوم بجولة قصيرة في صفحات التواصل الاجتماعي السودانية لتدرك حجم السقوط. مشهد قبيح لا تخطئه العين: خطاب كراهية، استقطاب سياسي فجّ، ومحتوى أجوف يلهث وراء "اللايك" والمشاهدة بلا قيمة ولا رسالة. كأننا نعيد إنتاج انحطاطنا اليومي في نسخة رقمية. القبلية صارت سلعة، هناك صفحات تبني جمهورها على شتيمة مكوّن كامل من أبناء الوطن، وتحوّل الانتماء القبلي إلى مادة للتهريج والتشهير. في المقابل، مشاهد أخرى لا تقل رداءة: "لايفات" مليئة بالسباب بين ناشطين كل ما يملكونه صوت مرتفع يلعنون بعضهم على الهواء مباشرة، والجمهور يصفق لهم وكأنهم أبطال! أما الفيديوهات التي تتصدر "التريند"، فحدث ولا حرج: رقص رخيص في زمن بلد يحترق، تمثيليات سطحية بلا مضمون، و"تحديات" فارغة لا تليق بشعب يواجه حرباً ومعاناة. السياسة نفسها لم تسلم، فقد تحولت النقاشات من صراع أفكار إلى صراع شتائم حيث يختفي البرنامج والمشروع ويُستبدل بالسخرية والاتهام الشخصي. حتى بعض الصفحات "الإخبارية" تعيد نشر الإشاعات بكل صفاقة، وتبيع الوهم للناس وكأنه حقيقة، فقط لتكسب المتابعين. إنها صورة مأساوية تعكس انحطاطاً أخلاقياً وفكرياً، ومؤشراً على أننا نغرق في تفاهة جماعية. بدل أن يكون الفضاء الرقمي أداة للتنوير والنقاش، صار مكبّاً ضخماً للتفاهة يعيد تدوير الرداءة ويكرّس الكراهية. لكن المعضلة ليست في "صناع التفاهة" وحدهم، بل في الجمهور الذي يتابع ويدمن هذا الهراء. فالرداءة لا تزدهر إلا حين تجد من يصفق لها. يبقى السؤال: هل هذه مجرد مرحلة انتقالية سنخرج منها نحو محتوى أكثر وعياً؟ أم أننا نحفر بأيدينا قبراً جديداً لوعينا الجمعي باسم "التواصل الاجتماعي"؟ إذا لم ينهض السودانيون لمقاطعة هذا الانحطاط الرقمي، فسوف نبقى أسرى لمشهد يختزل بلد بأكمله في تفاهة، ويقتل أي إمكانية لحوار ناضج أو وعي يليق بأمة تنشد السلام والتحرر.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة