تائهٌ في الزمن في الطابق العُلوي من أرشيف النسيان، جلسَ المؤرِّخ الكسول على مقعدٍ منسيٍّ منذ انقلاب عبود، ممسكًا بدفترٍ مُغطّى بجلدٍ مهترئ، كُتب على غلافه بخطٍّ مرتجف:
"تاريخ السودان من باب القلب، لا الحقيقة... العاشق الأبدي للانقلابات على مرِّ الشعور والأزمان."
كان المؤرِّخ – واسمه "عين"، لكنه يُفضِّل أن يُنادى بلقبه الثوري: "المؤرِّخ العاطفي" – قد قرَّر أن يُعيد كتابة التاريخ السوداني الحديث، لا كما جرى، بل كما تمنّى أن يكون. وكان بطله الأوحد، ومعشوقه الذي لا يغيب عن نثره، هو عبد الخالق محجوب، سكرتير الحزب الشيوعي، أو كما يُسمِّيه:
في كل صفحة، كان يفتح قلبه لا عقله، ويغمس القلم في الحنين لا في الحبر.
العيون التي أشعلت المانيفستو
حين التقى المؤرِّخ لأوّل مرة بصورة عبد الخالق محجوب، لم يكن في مؤتمرٍ حزبي، ولا في نقاشٍ حول التحوُّل الديمقراطي، بل في كُتيّب منسيّ وجده في حقيبة حبيبته الشيوعية السابقة، التي تركته لأنه كان يخلط بين "الجدلية الهيغيلية" و*"طريقة عمل الشاي بالنعناع"*.
كانت الصورة أبيضَ وأسود، لكن قلبه امتلأ بالألوان.
يقول في مذكراته:
"تلك العيون لم تكن تنظُر... بل تنظِّم."
من يومها، قرَّر أن يتجاهل كل مقالات عوض عبد الرازق عن ضرورة العمل وسط الجماهير، لأنه شعر أن الواقعية السياسية لا تُلهم قصيدة، ولا تصلح أن تكون رواية غرامية.
في إحدى الليالي، حلم المؤرِّخ بأنه يُحاور عبد الخالق محجوب نفسه.
قال له في الحلم:
– يا رفيق عبد الخالق، لماذا شققتَ الحزب؟ لماذا رفضتَ رأي عوض عبد الرازق؟
فابتسم عبد الخالق، وقال وهو يُلوِّح بسيجارة مشتعلة:
– لأني أحبُّ الانقلابات، كما يحبُّ الشاعر لحظةَ الكشف.
في اليوم التالي، كتب المؤرِّخ مقالًا بعنوان:
"الانقلاب كفعل حب: عبد الخالق لا كسياسي، بل كمتمرِّد عاشق."
وطُرد بعدها من مجلة الحزب، وأُغلِق عليه باب المكتبة نهائيًّا.
محاولة انقلاب... من نوعٍ آخر
حين كتب عن انقلاب الكُدّ، لم يذكر أسماء الضبّاط، ولا تفاصيل الخطط، بل سرد الانقلاب كما لو كان قصة حبٍّ من طرف واحد. كتب:
"حاول عبد الخالق أن يُهدي قلبه للسلطة، لكن السلطة كانت تُحب الضبّاط الوسيمين فقط، فرفضته. كانت خيبةُ الانقلاب مثل خيبة الرسائل التي لا تُقرأ... تُعتقل قبل أن تصل."
ثم جاء إلى مايو 1969، وفيها كتب فصلًا كاملًا بعنوان:
"حين رقص عبد الخالق مع النميري فوق ألغام الوفاء."
لكنه لم يذكر ما حدث بعد الرقص. لم يكتب عن الانقسام، ولا عن المذبحة، ولا عن المقصلة.
بل ختم الفصل بجملة:
"لقد أحبَّ عبد الخالق الثورة أكثر من نفسه، ودفع الثمن كأيِّ شاعرٍ صدَّق أن الحب وحده يصنع الوطن."
السقوط الأخير
وفي لحظة الصفاء الوحيدة في حياته، كتب المؤرِّخ جملة غريبة في نهاية دفتره:
"ربما لم يكن عبد الخالق ملاكًا، وربما لم تكن الانقلابات قصائد حب، وربما كان عوض عبد الرازق على حق... لكن من يكتب التاريخ بقلبه، لا ينجو من الخيبة."
طُويت الصفحات، وانتهت القصة، ليس بانقلاب، بل بدمعةٍ على صورةٍ عتيقة.
تمجيد الخطأ
دفتر المؤرِّخ الكسول محفوظ اليوم في المتحف الوطني، تحت لافتةٍ كُتب عليها:
"هذا ليس تاريخًا... بل حبٌّ لم يتحقّق."
وفي الهامش:
"إهداء إلى كل من أحبَّ زعيمًا... أكثر ممّا أحب الحقيقة."
هوامش +
+ خالد الكد – انقلاب بروفة: علاقة قرابة مع عبد الخالق محجوب، ومجلس انقلابه في جيبه يشمل النميري وهاشم العطا! ظلّ سجينًا حتى انقلاب مايو 1969م، ثم عاد للقوات المسلحة مُعزَّزًا مُكرَّمًا. لكن سرعان ما أُحيل للمعاش… وكأنها دراما عبثية، أعاده انقلاب هاشم العطا للخدمة العسكرية… وسرعان ما خَبَا انقلاب منتصف النهار، وانهزم. اختفى خالد، ونجا من الإعدامات والمجازر…
+ مفاجآت الميكروفون: التقليد السائد أن يكون الرئيس آخر المتحدثين، لكن المفاجأة كانت في من قدّمه المذيع: عبد الخالق محجوب. لم يُقدَّم بصفته الحزبية، لكن مجرد ظهوره في لقاء جماهيري مع مجلس قيادة الثورة، كان إيحاءً بعلاقةٍ وثيقة.
+ كيس الموز: كان جعفر نميري يحمل كيسًا من الموز حين التقاه زميله نقد، وبعد التحية، قاده نقد إلى منزل بابكر عوض الله قرب القيادة العامة، ليلتقي عبد الخالق. دار بينهما حديثٌ عن الوضع السياسي الراهن... وحتميّة التغيير.
+ من مذكرات المهندس مرتضى أحمد إبراهيم (وزير الري السابق) صفحة 183: رواية النميري عن ليلة 25 مايو:
"ذهبت إلى عبد الخالق محجوب في بيته بأم درمان بعد منتصف الليل، وأخبرته أني ذاهب إلى خور عمر، لقيادة القوات التي ستدخل الخرطوم في الساعات الأولى، لإبعاد الأحزاب الرجعية."
+ أنا الحزب والحرب أنا: آخر مرة رأيت فيها عبد الخالق، كانت بعد لقاء الرائد هاشم العطا أمام القصر، نهار 22 يوليو 1971. ركب عبد الخالق الفولكسواجن، وكان الناس يهنّئونه بعد الخطاب الجماهيري. عجبتُ أنه لم يدعُ لاجتماع اللجنة المركزية طوال ثلاثة أيام!
+ عن الصراع القديم: في الخلاف بين عبد الخالق محجوب وعوض عبد الرازق – وكلاهما رائد في الحراك الشيوعي – ظلَّ عبد الخالق لا يذكر عبد الرازق إلا مقرونًا بلقب: "الانتهازي".
النهاية…؟ ربما لم يكن هناك تاريخ، بل فقط عاشق فاته القطار… فكتب بدلاً عنه، قصيدة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة