باكبر مدينة تعليمية علي مستوي الوطن العربي والتي تضم مجموعة من الجامعات العالمية عقد جامعة جورج تاون ولثلاثة ايام متتالية لمؤتمر مثاقفة حول السودان بحضور سعادة الشيخة المياسة بن حمد آل ثاني رئيس مجلس امناء متاحف قطر ومؤسسة الدوحة للأفلام و وسعادة لولوة بن راشد الخاطر وزيرة التربية التعليم والتعليم العالي .. باعتبار ان السياسة هي السفينة التي تبحر بالدول للامام وبرغم ذلك فان الفن او فلنقل الثقافة هي احد الازرع القوية التي تجعل من الحياة ممكنة لانها تزينها بلمسة جمالية، فالسياسة كما خبرناها في واقعنا العربي والأفريقي، كثيراً ما تتجسد في سلطة القهر والإقصاء، بينما الفن في لحظاته الأصيلة يفكك هذه السلطة عبر أدواته الرمزية. وحين تذكر المأساة الإنسانية في السودان تلحق غالباً بصفة “المنسية”، وهذا ما دفع جامعة جورجتاون في الدوحة عند افتتاحها، يوم الخميس، موسم مؤتمرات وحوارات أن تصدر تذكيراً عاجلاً: “شاهد السودان الآن”. في مواجهة الحلول السياسية المتعثرة، قدمت الجامعة نهجاً بديلاً، وهو إنشاء تجمع للمبدعين السودانيين للفت الانتباه إلى المأساة من خلال وسائل أُخرى تنضوي كلّها تحت مؤتمر “رؤية السودان: السياسة عبر الفن”، الذي يستمر بشكل رئيسي في فندق فورسيزون قطر لثلاثة أيام . الكثيرون رويتهم ان السياسة حين تفشل في أداء وظائفها الأساسية، ينهض الفن بوصفه فضاء أخلاقياً ومعرفياً يعيد للكارثة حضورها في الوعي. وهذا ما أرادت جامعة جورجتاون أن تفتتح به موسمها الأكاديمي لعلها تسهم في تحويل الجرح السوداني من مادة منسية في نشرات الأخبار إلى واقع ملموس يعاد فيه تعريف الثقافة كقوة مواجهة. بدا أن المؤتمر بابراز نظرية عن “الدبلوماسية الثقافية” فحين اعتلت المنصة الأكاديمية السودانية وأستاذة الأنثروبولوجيا بجامعة جورجتاون د . رقيّة أبو شرف، استدعت ذاكرة وطن يعيش منذ عقود على حافة الإبادة الرمزية والمادية. بمسيرتها الطويلة في دراسة المجتمع السوداني، وقراءتها النقدية لعلاقة السياسة بالهوية، جعلت من خطابها إدانة فكرية للعنف الذي لا يكتفي بإزهاق الأرواح، بل يجرد الناس من إمكاناتهم الطبيعية للعيش. كما أدار عميد الجامعة صفوان المصري جلسة تحدّثت بها الإعلامية البريطانية سودانية الأصل زينب بدوي ، التي عُرفت لعقود عبر شاشة “بي بي سي” وكرست مسيرتها للتاريخ والسياسة والفكر، وتشغل رئاسة “مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية” في لندن، فاستحضرت صورة السودان الحضارية الضاربة في الجذور، والتي كانت ذات يوم قوة إقليمية. وكما ذكرت فان السودان لا يُختزل في صور الحرب والمجاعات، بل في تاريخ علمي وثقافي يضيء المنطقة منذ قرون. كما جاءت شهادة نسرين مالك الكاتبة والصحافية التي عُرفت بمقالاتها النقدية في “الغارديان” وغيرها في الصحافة البريطانية. والتي جبلت تفكيك الخطابات السائدة عن الهوية والمرأة والسياسة، وهي هنا أعادت صياغة هذا النقد في مواجهة التمثيلات المبتسرة للسودان. حديثها حمل وعياً بأن معركة الخطاب لا تقل خطورة عن معركة النجاة الجسدية، وأن السيطرة على السرديات جزءٌ من الصراع السياسي ذاته. أما التشكيلي المعروف د. راشد دياب، فقد تحدث بنبرة حزينة عن الخراب الذي طاول الحياة الثقافية بفعل الحرب. وراشد كان قد أسس مركز راشد دياب للفنون في الخرطوم عام 2005 مثّل رئة للحوار الإبداعي والتدريب الفني والتبادل الثقافي. المركز زخر بالورش الفنية والثقافية تحوّل لرمز لفقدان المشهد الفني السوداني لبيئته الطبيعية. مداخلته كانت بياناً عن معنى أن يُحاصَر الفن في وطنه ويضطرّ إلى الاستمرار في المنافي. مع التذكير بأن الفنان، وهو يحمل الجنسية الإسبانية، عاد خلال الحرب إلى إسبانيا تاركاً إرثاً تعرض للنهب والتخريب. آخر المتحدثين في اليوم الافتتاحي كان الفنان ورسام الكاريكاتير خالد البيه الذي ارتبط اسمه بريشة جريئة نشرت في كبرى الصحف والمجلات العالمية. والذي انتقل لجامعة جورجتاون بقطر فناناً مقيماً، قدم تجربة بصرية تحول اليومي والسياسي لملامح ساخرة تكشف التناقضات وتعيد الاعتبار لصوت الناس البسطاء. ففن فالكاريكاتير ليس تعليقاً عابراً، بل وسيلة تقاوم وتذكر بأن الضحك ذاته قد يكون سلاحاً ضد التسلط. وقد استدلت الستارة عن اليوم الأول بحفل غنائي للثنائي المغنية السارة، التي تسهم في نقل الأغنية التراثية السودانية لمسارح العالم، والموسيقية الفلسطينية هدى عصفور، التي جعلت من العود وسيلة للتواصل مع الذاكرة والجرح الجماعي. وأعادت الأغنيات ذات الإيقاعات المألوفة في ميادين الثورة بوصفها أداة للتضامن العابر للحدود، في لحظة التقاء صوت سوداني بآخر فلسطيني، فبدا أن الفن يخطّ خريطة جديدة للتحالف العربي، قوامها الصوت والذاكرة والقدرة على تحويل الألم إلى جمال. حضور بازخ من المهتمين والفنانين وطلبة العلم شهدته " السودان والفن " وتبقي اللوحة، والأغنية، والكاريكاتير، والنص الأدبي، والصحافي التحليلي والاقتحامي الاستقصائي، حتى الشخبطة علي الحيطان او ما تبقي من اثار ما دمرته الحرب كلها تتحول إلى “نصوص مضادة” تفضح ما يُراد إخفاؤه، وتعيد للذاكرة الشعبية قوتها في مواجهة النسيان ويمكننا أن نقول ان احداث وتفاصيل مؤتمر “رؤية السودان” يتجاوز حدود ندوة أكاديمية أو لقاء ثقافي، حيث تقتحم السياسة فضاءات الفن، إمكانية أخيرة لتخيّل عالم أكثر عدلاً، حين تنغلق الأبواب والآفاق أمام 14 مليوناً ينزحون في بلادهم، و17 مليوناً من الطلبة خارج المدارس، وخمسين مليون إنسان في خريطة السودان كلها لا يريدون أن يكونوا أرقاماً بل اجساد حية تعشق الحياة وتتعايش مع الواقع وايضاً تناضل لتغييره .ولن تكون حرب السودان منسية طالما دلفت لأروقة جامعة جورج تاون الدوحة عبر الفن والريشة والقلم ..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة