إشكالية الاستلاب التاريخي: من العبودية إلى التراتبية العرقية في السودان
لم يكن السودان مجرد محطة عابرة في تاريخ تجارة الرقيق، بل كان نقطة ارتكاز جيوسياسية حاسمة بين عمق أفريقيا والمجالات الحضارية المشرقية. لقد مثّل هذا الموقع الجغرافي استلابًا مزدوجًا: استلابًا بشريًا تمثل في استنزاف الملايين من الكيانات الإنسانية من الجنوب والغرب الأفريقي، واستلابًا اجتماعيًا أسّس لتشكيل طبقي عميق الجذور. هذه التجارة لم تكن مجرد فعل اقتصادي، بل كانت مشروعًا سياسيًا واجتماعيًا يهدف إلى إعادة هندسة الهوية السودانية على أساس تراتبية عرقية صارمة "العربي" كذات عليا و"الأفريقي" كذات دنيا، وهو ما شكّل نواة الاستقطاب المستمر الذي يحدد مسارات الصراع في هذا البلد. لقد أدى هذا الاستغلال الممنهج، الذي غالبًا ما غُلّف بغطاء شرعي ديني، إلى خلق بنية اجتماعية هشة، تحمل في طياتها بذور عدم الاستقرار.
تجاوزت ممارسات العبودية حدود السوق العلنية، لتتغلغل في النسيج الاجتماعي والوعي الجمعي عبر ما يمكن تسميته بـ العبودية المنزلية. لم تكن هذه الظاهرة مجرد علاقة تبعية اقتصادية، بل كانت عملية تدجين اجتماعي، حيث يتم دمج "العبد" في إطار الأسرة، ليس كمواطن أو فرد، بل كملكية خاصة تُورّث مع العقار والممتلكات. هذه الممارسات رسخت مفاهيم التبعية والإقصاء في البنية النفسية للمجتمع، فجعلت من فكرة "الحرية" امتيازًا عائليًا أو قبليًا، لا حقًا إنسانيًا. لقد كانت العبودية المنزلية أداة لإعادة إنتاج التراتبية العرقية والطبقية، حيث تتحول العلاقة من علاقة استغلال اقتصادي إلى استعمار للوعي، وتكريس لحالة من "التشيؤ" البشري المستمر.
إن أحد أخطر أبعاد هذه الإشكالية يكمن في توظيف المؤسسات الروحية لشرعنة الاستعباد. فبدلًا من أن تكون ملاذًا للعدالة الروحية، تحولت بعض هذه المؤسسات إلى فضاءات لاستغلال الأفراد. هذا التماهي بين "الخدمة الدينية" و"الاستلاب البشري" أضفى قداسة على علاقات القوة غير المتكافئة، مما جعل مقاومة هذه الممارسات تبدو وكأنها تحدٍ للسلطة الروحية نفسها. هذا التوظيف للمقدس في خدمة الدنيوي، وتحديدًا في خدمة الهيمنة، أضعف من قدرة المجتمع على النقد الذاتي، وساهم في ترسيخ نظام اجتماعي يتم فيه استغلال الأفراد باسم الطاعة والورع.
بعد الإلغاء الشكلي للرق، لم تختفِ التراتبية، بل تحولت من ممارسة قانونية إلى حالة اجتماعية وثقافية. إن العنصرية في السودان هي الذاكرة الحية لجسد العبودية الميت. لقد استمرت في إنتاج ذاتها عبر آليات متعددة، فمن التمييز اللغوي والاجتماعي من خلال استخدام مفردات وأوصاف تكرس دونية فئة معينة، مثل التمييز بين "أولاد العرب" و"أولاد الغرب" أو "الزرقة" مما يترجم الانقسام التاريخي إلى سلوك يومي، إلى الاستبعاد السياسي حيث يتم استبعاد بعض المجموعات من دائرة صنع القرار بحجة خلفيتهم العرقية أو الثقافية، مما يعيد إنتاج علاقات القوة القديمة في ثوب الدولة الحديثة، وانتهاء بالتشوهات الثقافية من خلال الأدب الشعبي والنكات التي تكرس الصورة النمطية السلبية "للعبد"، مما يحول العنصرية من فعل سياسي إلى موروث ثقافي يحدد هرمية المجتمع. هذه العنصرية الداخلية، التي تعمل من داخل النسيج الوطني، تعد أكثر خطورة من الاستعمار الخارجي لأنها تمثل حالة استلاب ذاتي، يمارس فيها الفرد الاضطهاد ضد بني جلدته.
في مرحلة ما بعد الاستعمار، واجه السودان معضلة مزدوجة: إرث الاستعمار الأوروبي الذي رسخ الانقسامات العرقية، وإرثه الداخلي الذي أعاد إنتاج تراتبية الرق. هذه الحالة تجسد بوضوح نظرية فرانتز فانون حول استبطان المستعمَر لصورة المستعمِر، وتوظيفها ضد أبناء وطنه. فبدلًا من أن تكون الدولة الوطنية نقطة انطلاق جديدة لبناء مواطنة متساوية، أصبحت أداة لإعادة إنتاج التراتبية العرقية القديمة في المؤسسات السياسية والاجتماعية للدولة. هذا الفشل في التأسيس على مبادئ المساواة والمواطنة هو أحد الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي يشهده السودان.
إن مواجهة هذه الإشكالية التاريخية لا يمكن أن تقتصر على إصلاحات شكلية أو تشريعات قانونية. يتطلب الأمر مشروعًا ثقافيًا وسياسيًا عميقًا يهدف إلى الاعتراف الصريح بالرواية التاريخية للرق والعنصرية، وتحرير الخطاب الديني من الموروث الذي استُخدم لشرعنة الاستعباد وإعادة كتابة التاريخ من منظور الضحايا وليس المنتصرين، وصولًا إلى مشروع المواطنة الذي يبني دولة لا تتحدد فيها قيمة الفرد بانتمائه العرقي أو القبلي، بل بإنسانيته ومواطنته. وحده هذا المسار يمكن أن يحرر السودان من قيود ماضيه، ويؤسس لواقع سياسي واجتماعي جديد يقوم على المساواة والعدالة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة