من يقرأ تاريخ القرون الوسطى في أوروبا، بما شهده من محاكم تفتيش، ومطاردة للمفكرين، وإحراق للأحرار بعد وصمهم بالزندقة، ثم ينظر إلى تجربة الحركة الإسلاموية في السودان، لا يكاد يجد فرقًا كبيرًا في جوهر الفعل السياسي وأدواته، فكلاهما اعتمد على استغلال الدين لإخضاع الناس، وقمع التفكير الحر، وتنفير الأسوياء من المشاركة في الشأن العام، وفتح الباب واسعًا أمام الأشرار وأصحاب المصالح الضيقة وعديمي الإنسانية، وكما ساد في تلك العصور منطق الحديد والنار، ساد في التجربة الإسلاموية منطق بيوت الأشباح، والقوانين المقيدة للحريات، ومطاردة كل رأي مخالف بوصفه كفرًا أو خيانة، وبينما ادّعى طغاة القرون الوسطى أنهم حماة الإيمان، زعمت الحركة الإسلاموية أنها حامية الدين، لكنها لم تورث الشعب إلا القهر والجراح، ولم تترك وراءها سوى الخراب المادي والروحي، وإرثًا دمويًا سيبقى شاهدًا على أن كل مشروع يقوم على سحق إنسانية البشر محكوم عليه بالانهيار مهما طال أمده.
في القرون الوسطى.. كان الطغاة ورجال الدين يتواطؤون على إذلال الإنسان وتجريده من أبسط حقوقه. كانوا يمنعون الناس من التفكير الحر، ويصادرون كتبهم، ويجرّون المفكرين إلى محاكم التفتيش، حيث التعذيب والحرق والنفي. لم يكن الهدف الدفاع عن العقيدة كما زُعم، بل تثبيت سلطة تقوم على الامتيازات المادية، ونهب خيرات الشعوب، والتخلص من كل صوت يهدد هذه المصالح. هذه الصورة القاتمة، بكل تفاصيلها، تتكرر في السودان الحديث تحت حكم الحركة الإسلاموية، التي لم تتورع عن استدعاء ذات الأساليب، بل ربما صاغتها في قوالب أشد قسوة.
لقد حكم الإسلامويون السودان بيوت أشباح لا تختلف كثيرًا عن محاكم التفتيش. هناك، كما هنا، يُنتزع الاعتراف تحت السياط، وتُحطم إرادة الإنسان ليُعاد تشكيله على مقاس السلطة. قوانين النظام العام التي أذلت النساء السودانيات بالجلد العلني، ما هي إلا صدى لسلطات القرون الوسطى التي أحرقت النساء بتهمة السحر أو الزندقة. أما الصحفيون والمفكرون الذين طُردوا من وظائفهم، أو سُجنوا وعُذبوا، فهم الوجه المعاصر لفرنسوا فيلون وسافونارولا وأموري ألبيناوي، أولئك الذين دفعوا حياتهم ثمنًا لفكرة أن الإنسان يستحق الحرية والكرامة.
وإذا كان علي كرتي وحركته المجرمة يريدون لنا العودة إلى القرون الوسطى بما فيها من أساليب إذلال للرعية، فإن هذا الخيار لم يعد مطروحًا في الوقت الراهن. لقد جعلت الجغرافيا السودانية بكل اتجاهاتها وتلاوينها السياسية والثقافية تتمرد عليهم، وتطرح السؤال الذي يهربون منه: لماذا تمرد كل السودان على حركتهم المجرمة التي عاثت في البلاد قتلاً ونهبًا وسرقة وكذبًا وحربًا؟ وحتى على مستوى الشرائح المهنية، ظل حاملو مشاعل الوعي والنور خارج دائرة المركز، إلا من توجس خيفة من إلصاق التهم الجاهزة به. أما الآخرون، فهم من فاقدي الموهبة والضمير، وقد امتلأت بهم الساحة، بينما استخدم رئيس منبر الشمال قائمة طويلة من الديباجات لوصم الكُتاب والمعارضين بلقب " العملاء" فقط لأنهم يختلفون معه في الرأي.
*أصحاب التاج والصولجان*
فالشاعر الفرنسي العظيم فرنسوا فيلون، أحد أبطال الحب والحرية في تاريخ البشر، كان مارقًا في قانون ذوي الأقنعة السوداء وأصحاب التاج والصولجان في القرون الوسطى. لذلك عاش طريد القانون مُشردًا في كل أرض لا يحتويه مكان، وقد صدر ضده أكثر من ستين حكمًا تتراوح بين النفي والسجن والسجن المؤبد والتعذيب والقتل بالسيف والحرق بالنار. ولكنه أفلت من قبضات الماكرين وظل تائهًا ينشد الحب والحرية والمساواة بين الناس وسحق التعصب بكل ألوانه، كما ظل يدعو إلى وثبة العدالة والحياة ضد الجور والموت، إلى أن انتهى عمره القصير وهو في شرخ شبابه، في الرابعة والثلاثين من عمره.
وفي أواخر القرن الثاني عشر ظهر في مقاطعة بريتانيا بفرنسا مفكران مصلحان؛ أولهما أموري ألبيناوي، وثانيهما داود الدنيانتي وهو تلميذ الأول ورفيقه. وقد هاجم هذان المفكران تعاليم رجال الدين القاضية بأن يبقى الشعب في غفلة عن حقوقه في حرية الفكر وحرية العيش، وبأن يبقى أبناؤه عبيدًا لهم وللأشراف والأمراء الأغبياء. فما كان من رجال الدين إلا أن ألفوا محكمة عاجلة لمحاكمتهما ومحاكمة أتباعهما دفعة واحدة، وكان الحكم قاسيًا والعقوبة صارمة، حيث حمل أتباع الرجلين إلى ساحة النار. أما المفكران فقد فرا طلبًا للنجاة، ولكن انتقام رجال الدين في تلك العصور كان أوسع من أن يفلت منه الإنسان حيًا أو ميتًا، إذ ترقبوا موت الرجلين الكريمين، فنبشوا قبرهما وأحرقوا رفاتهما.
ولكن هل خلت هذه الظلمات من شهب تتوامض في دياجيرها السود فتمزقها ولو إلى حين؟ وهل استسلم الإنسان في أوروبا مطلقًا لمخزيات الطبقية والإقطاعية والعصبية الحمقاء؟ وهل خمدت الحياة في الأحياء وانطفأ تأججها فسكنت وسكن الناس؟ فما من ثائر لحق ولا من مُتمرد على الوصاية والظلم. وهل تفككت السلسلة التي صيغت حلقاتها بنور الأذهان والقلوب وحُميت بالدماء والتضحيات منذ كان الإنسان الاجتماعي الأول حتى هذه الصفحات من تاريخ البشرية؟ وهل انقطعت الطرق التي سار فيها الإنسان السابق في كيان أخيه اللاحق، لتدله على أنه إنسان، وأن له حقوقًا عليه أن يطلبها بعناد وإصرار؟
بكل تأكيد أن الحياة لم تخمد ولن تخمد، وفي يقيني التام أن الكُتاب والنشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي الذين يقومون اليوم بالعمل التنويري، ويفندون أكاذيب وافتراءات العصابة الحاكمة، هم امتداد لأموري ألبيناوي وداود الدنيانتي وغيرهما من المصلحين. لقد رفع هؤلاء من أسهمهم، وجعلوا أنفسهم في مكانة القلب من الوطنيين الأحرار. نحن في السودان هذه الأيام نعيش عهدًا جديدًا تمايزت فيه الصفوف. والناظر إلى الكُتاب الوطنيين والنشطاء على الفضاء السوداني يجد أنهم من أصحاب التجارب الفكرية والسياسية والاجتماعية والأكاديمية؛ منهم من صال وجال في ميادين العمل الوطني ونذر نفسه لفكاك الشعب السوداني من براثن هذه العصابة المجرمة.
إن أصحاب التجارب هم الأكثر قدرة من غيرهم على تفكيك الطلاسم وفهم حاجات الشعب السوداني، ولذلك أقول إن الكُتاب الوطنيين الذين يشكلون الرأي العام اليوم قادرون بعصارة فكرهم على تجسيد الحل الذي ينتظره الجميع، والمتمثل في إزالة العصابة من سدة الحكم بثورة شعبية متجددة، وهي ثورة نؤمن بضرورتها وأهميتها في الوقت الراهن أكثر من أي وقت مضى.
*نسخة مكررة من عصور الظلام*
في السودان، منذ استيلاء العصابة على السلطة، تكررت المشاهد القديمة بلباس جديد. بيوت الأشباح كانت محاكم تفتيش محلية، حيث يُعذّب المعارضون ويُجلدون حتى الموت. قوانين النظام العام التي جلدت النساء في الشوارع لم تكن إلا صورة حديثة من المحارق التي أحرقت النساء بتهمة السحر. مطاردة الصحفيين والمفكرين وتشويههم هي النسخة السودانية من اتهام المصلحين بالزندقة والمروق. وحتى الموت لم يكن نهاية المطاردة؛ إذ لاحق الإسلامويون خصومهم بعد وفاتهم بالتشهير والتزوير، كما فعل رجال الدين في القرون الوسطى حين نبشوا قبور المفكرين وأحرقوا رفاتهم.
على مدى ثلاثة عقود، كرّست الحركة الحاكمة مشروعًا يقوم على قمع الإنسان، واستقطاب الأشرار وعديمي الضمير، وإقصاء كل صوت حر. لم يكن هناك مكان للأسوياء ولا لأصحاب الضمائر الحية؛ فقد احتاج المشروع إلى من ينفذ بلا وازع، إلى من يجد لذته في القمع والنهب، لا إلى من يسائل أو يفكر أو يرحم. وبهذا امتلأت الساحة بوجوه غليظة لا ترى في الوطن إلا غنيمة، ولا في الدين إلا وسيلة للهيمنة.
المفارقة أن الإسلام الذي ادعوا الدفاع عنه كان أبعد ما يكون عن مشروعهم. الإسلام كما ظهر في سيرة الإمام علي (كرم الله وجهه) وفي الفكر الإسلامي الأصيل، كان صوتًا للعدالة والحرية. لكن الحركة الإسلاموية فرغته من مضمونه الإنساني، وحولته إلى سوط على ظهور الناس. وهنا يتجلى قول المفكر السعودي عبد الله القصيمي: "أشد الناس خوفًا من الحرية والتطور هم الذين انتصروا بالمؤامرات، وهم الذين ارتفعوا فوق أكتاف التاريخ بالقفز عليه في الظلام". فالذين جاؤوا بانقلاب عسكري في ليل مظلم، لا يمكن أن يسمحوا بنور الحرية.
أما المفكر السوداني أبو القاسم حاج حمد فقد أشار إلى أن الاستبداد ينشأ حين يظن الإنسان أن له مطلقًا ذاتيًا، فيستبدل الوحدة بالصراع، والسلام بالانقسام. وهذا بالضبط ما فعلته الحركة الإسلاموية؛ إذ أشعلت الحروب في الجنوب ودارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، وحولت التنوع إلى لعنة بدل أن يكون مصدر قوة، ومزقت السودان إلى كيانات متناحرة.
*مصائر الطغاة*
السودان أيضًا، برغم الجراح، لن يكون استثناءً من سنن التاريخ. أكثر من ثلاثين عامًا من القهر لم تُثمر إلا الخراب، وملايين الضحايا، وانهيار الدولة في مؤسساتها واقتصادها ومجتمعها. ثلاثة عقود سُرقت فيها ثروات البلاد، وشُرد فيها أبناؤها في المنافي، وقُسم الوطن على أساس الولاء للحزب لا للوطن. ومع ذلك، فإن الشعوب، وإن طال صبرها على الفقر والجوع والحرمان، لا تصبر على إهدار الكرامة ولا على سحق إنسانيتها. إن السودانيين الذين خبروا مرارة القمع وذاقوا عسف بيوت الأشباح، وفقدوا أبناءهم في ميادين القتال العبثي، لن يقبلوا أن يُكتب مستقبلهم بيد الطغاة.
والذين جثموا على صدور السودانيين لن يخلدهم التاريخ إلا في صفحات العار، فالتاريخ لا يحفظ أسماء الجلادين إلا كرموزٍ للظلم، بينما يخلّد في صفحاته الناصعة صبر الشعوب ونضال الأحرار. وإن ما يتوهمونه من بقاء ليس سوى وهمٍ عابر، فكما انهارت محاكم التفتيش، وزالت النازية والفاشية، وتفكك نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، سيسقط هذا النظام الذي رهن الوطن لمصالح ضيقة وأشعل الحروب بين أهله. سيبقى السودان، برغم النزيف، أرضًا قادرة على إنجاب فجر جديد، وستبقى روح المقاومة حيّة لا تموت، لأن الكرامة أثمن من الحياة نفسها، ولأن إرادة الشعوب أقوى من كل طغيان.إن الشعوب قد تصبر طويلًا على الجوع، لكنها لا تصبر على إهدار كرامتها. وإن السودان، برغم الجراح، سيجد طريقه إلى الحرية والانعتاق. أما الذين جثموا على صدور الناس عقودًا، فلا ينتظرهم سوى الخسران المبين، ولا يخلدهم التاريخ إلا في صفحات العار. إنهم إلى زوال، ويبقى الشعب، وتبقى القيم التي لا تُهزم: الحرية، والعدالة، وكرامة الإنسان.
الثلاثاء 23 سبتمبر 2025م
-
*المقال مقتبس من مقال على حقلتين بعنوان (الطيب مصطفى والقرون الوسطى) بصحيفة (أجراس الحرية)* بتاريخ 5 أبريل 2008م.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة