في أروقة السياسة السودانية، حيث تتراقص الأفاعي على إيقاع طبول الحرب وتختلط الألوان لتشكل لوحةً سريالية من التناقضات، تبرز ظاهرة جيدة تثير الدهشة بقدر ما تثير السخرية المريرة: ميلاد محتمل لتحالف بين قطبين، عُدّا نقيضين لدودين، هما الإسلاميون والشيوعيون. يبدو الأمر ككوميديا سوداء، فمن ذا الذي كان يصدق أن أولياء الله قد يصافحون أعداء الدين بحرارة، ليس في الجنة ولا في النار، بل على أرض الخراب السوداني، وفي كواليس السلطة التي لا تُبقي ولا تذر، ففي السودان، كما يقول المثل، كل ممنوع مرغوب، وكل مستحيل محتمل، والعنوان الذي يبدو استفزازيا للبعض (لا تستغربوا إذا رأيتم الشيوعي يؤم الإسلاميين في دار الحزب المغتصب)، ليس مجرد صيحة في واد، بل هو محاولة لسبر أغوار التقاء المصالح، وتفكيك التشابهات الخفية التي تجمع بين أيديولوجيتين، ظاهرهما التنافر، وباطنهما تشابك حول رفض جوهري لمفهوم الدولة الحديثة القائمة على الحياد الديني أو الفكري. عزيزي القارئ.. في مشهد يبعث على الذهول، أطلق قادة في الحركة الإسلامية السودانية (الإخونج)، دعوات صريحة لفتح صفحة جديدة في علاقتهم مع الشيوعيين. تخيلوا هذا المشهد: عقود من العداء الفكري والسياسي، حرب باردة وساخنة، بيانات نارية، تصفيات متبادلة في صفحات التاريخ السوداني، لتتحول فجأة إلى بناء حلف عاقل ووطني وعملي، عماده مساندة المؤسسة العسكرية للدفاع عن الوطن والشعب. إنه أشبه بدعوة الشيطان الرجيم، ملائكة الرحمة لتشكيل مجلس إدارة مشتركة في الجهنم، أو أن يتفق الماء والنار على تقاسم وظيفة إطفاء الحرائق، إذ أي منطق هذا، وأي عقلانية تختبئ وراء هذه الدعوة؟ القيادية الإسلامية الخوانجية الشهيرة، سناء حمد العوض، التي لا تخفى على أحد أصولها الفكرية، لم تكتفِ بالدعوة، بل ذهبت أبعد من ذلك، حيث في مقالها لأجل الوطن، الذي ربما كان عنوانه الحقيقي (لأجل الكرسي)، كالت المديح للحزب الشيوعي، ترحيبا بعودته للعمل في العاصمة. هل سمعتم هذا؟، إسلاميون يمتدحون الشيوعيين، هذه مفارقة كفيلة بأن تجعل ماركس ولينين يدوران في قبريهما كالمراوح، وأن تُحدِثَ هزة أرضية في عقول من درسوا تاريخ الصراع الأيديولوجي، إذ وصفت سناء، طلب الشيوعيين بإستعادة مقرهم في أم درمان بالطريقة المتحضرة ووفق اللوائح والقوانين. يا لها من تحضر مفاجئ، هل كانت هذه التحضرات غائبةً عن قاموس السياسة السودانية عندما كانت القوى المدنية تطالب بالحقوق المشروعة، أم أنها حصريةٌ لمن يُظن أنهم قد يشاركون في كعكة السلطة؟ لم يتوقف الغزل السياسي عند هذا الحد، فقد ذهبت سناء حمد العوض، في سياق تمهيدها لهذا التحالف الغريب، إلى تذكيرنا بمآثر الحزب الشيوعي في التاريخ السوداني، ونوهت بأن الشيوعي كان أول الأحزاب الأيديولوجية في البلاد التي نأت بنفسها عن الطائفية، وأول حزب له قانون ولوائح، وأول من مارس الانتخاب لسكرتيره العام، وكان لديه إنتاج ثقافي وندوات سياسية مفتوحة بها خطاب مختلف، والأهم من ذلك، أشارت إلى أن الشيوعي كان لديه مكتب عسكري ومكتب تأمين، وبرزت قياداتٌ نسوية داخله، وذلك في عام 1948. هنا، تكمن المفارقة العميقة، والرسالة المُبطنة، فبعد كل هذا المديح، تأتي القاصمة: حركة الإخوان المسلمين، تلت الشيوعي بأشهر في التكوين، واستقطبت التيارات المحافظة، وللمفارقة آوى إليها أعضاء من الحزب الشيوعي فكانوا منارات فيها مثل، الشيخ يس عمر الإمام، وقد استفادت من تجربة الحزب الشيوعي التنظيمية في بناء هياكلها وشبكة علاقاتها. توقفوا قليلا عند هذه النقطة: سناء حمد العوض، بذكاء سياسي، لا تقدم تاريخا مجردا، بل تعرض حجةً ضمنية: لقد تعلمنا منكم أيها الشيوعيون، إنها تعترف بأن الحركة الإسلامية، التي تعتبر نفسها الوريث الشرعي للحقيقة الإلهية، قد اقتبست من الكفار، المنهج التنظيمي والصلابة الأيديولوجية. هذا ليس اعترافا بالجميل بقدر ما هو تبريرٌ للمستقبل.. إذا كانت الحركة الإسلامية قد استفادت من الشيوعيين في الماضي لبناء هياكلها، فلماذا لا تستفيد منهم الآن في إعادة بناء سلطتها؟ إنه منطقٌ براغماتي بامتياز، يرفع شعار الغاية تبرر الوسيلة على سارية لأجل الوطن، ألا يذكرنا هذا بأن النظم الشمولية، سواء كانت دينية أو علمانية متطرفة، غالبا ما تتشابه في آلياتها التنظيمية والتحكمية، حتى وإن اختلفت أهدافها المعلنة. كلاهما ينبذ التعددية الحقيقية ويرى في نفسه الوصي الأوحد على مصلحة الشعب أو الأمة. الشائعات والهمسات في الشارع السوداني تزيد من حدة هذه الصورة السريالية، إذ ان هناك أقاويل تزعم أن الشيوعيين يصلون ويصومون وولخ. قد تبدو هذه الأقاويل مضحكة للوهلة الأولى، لكنها تحمل في طياتها بعدا مهما. إنها تشير إلى أن الحدود الأيديولوجية الصارمة، التي ظلت تفصل بين هذه القوى، قد تكون أوهى مما نتصور، فإذا كان الشيوعي السوداني، المتهم بالإلحاد أو الزندقة من قبل خصومه، يمارس شعائر دينية، فهذا يعني أن الهوية الأيديولوجية ليست بالصلابة التي تبدو عليها، وأن الولاءات قد تكون أكثر تعقيدا من مجرد قوالب جامدة. على الجانب الآخر، نجد الإسلاميين الذين طالما رفعوا راية لا للحكم إلا لله، ينزلون الآن إلى أرض الواقع السياسي الموحلة ليمدوا أيديهم لمن ناصبوهم العداء باسم الله. هذا ليس تنازلا بسيطا، بل هو انعطافةٌ كبرى تكشف أن الأيديولوجيا، وإن كانت قوية، إلا أنها قابلةٌ للتكيف والتأويل عندما تكون المصالح العليا (بالنسبة لهم) على المحك. هذا التحول ليس وليد اللحظة، فالتاريخ يعلمنا أن الحركات الشمولية، حين تشتد عليها الأزمات أو تتغير حسابات القوة، لا تتردد في تبني سياساتٍ براغماتية تتجاوز شعاراتها المقدسة. وصفت سناء حمد الحرب الجارية حاليا بأنها ليس لها مثيل في تاريخ السودان، وهذا هو بيت القصيد، إذ ان الأزمات الكبرى تلد تحالفات غريبة، ففي ظل هذا الهول الذي يمر به السودان، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص وصرخات الجوع والمرض، وحيث تتهدد البلاد بالتمزق، يصبح الهدف الأسمى، الذي تتغنى به كل الأطراف، هو إنقاذ الوطن، ولكن أي وطن وبأي ثمن؟ دعوة سناء لفتح صفحة جديدة تبتدئ من الاتفاق على استقلال البلاد وعدم ارتهانها للأجنبي، ومساندة المؤسسة العسكرية للدفاع عن الوطن والشعب، ليست بريئة. إنها قراءة سياسية محكمة للوضع الراهن، فالمؤسسة العسكرية، التي يراهن عليها الجميع، تجد نفسها في موقف حرج، وتحتاج إلى غطاء سياسي ودعم شعبي، ولو كان من خصوم الأمس، وهنا يبرز الحلف العاقل والوطني والعملي كطوق نجاة للمؤسسة العسكرية وللطرفين الساعيين للسلطة. الغزل الإسلامي للشيوعي ومواقفه الأخيرة لم تمر مرور الكرام، فقد أثارت جدلا واسعا وكشفت بجلاء ما كان مستورا. رأى كثيرون أن موقف الحزب الشيوعي الداعم للجيش ولحكومة الانقلاب، بات واضحا، وكيف لا وقد زار فرع الحزب في عطبرة وزير البنى التحتية في ولاية نهر النيل مقدما مبادرةً لحل مشكلة مياه الشرب، وهو ما اعتُبر تماهيا كاملا مع سلطة الجيش القائمة منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021. هذا هو المشهد الذي يقلب التاريخ رأسا على عقب، فالحزب الشيوعي، الذي طالما ارتدى عباءة المعارضة الصلبة ومناهضة الاستبداد، والذي خرج من تحالف قوى الحرية والتغيير الحاكم في يوليو 2020، والذي نشط في عرقلة جهود حكومة عبد الله حمدوك، وتُوُصِّل بالتماهي مع الانقلابيين حتى بعد حرب أبريل 2023، هذا الحزب يقف الآن على عتبة التحالف مع الإسلاميين، تحت مظلة الجيش. إنها نهايةٌ درامية لمسيرة سياسية، أو بالأحرى بداية لكشفٍ جديد لطبيعة هذه القوى، فماذا بقي من شعارات اليسار الرنانة، عن الجماهير الكادحة والديمقراطية الشعبية، إذا كان كل هذا ينتهي بالركوع لسلطة الأمر الواقع، والانضواء تحت لواء من أطاح بالمدنية؟ المفارقة الكبرى التي تجمع بين الإسلاميين والشيوعيين، وتجعل تحالفهما أكثر منطقيةً مما يبدو للوهلة الأولى، هو رفضهما الجوهري للعلمانية، فبينما يرفضها الإسلاميون باعتبارها فصل الدين عن الدولة واستبعادا لحاكمية الله، يرفضها الشيوعيون، وإن لم يصرحوا بذلك صراحةً بنفس المصطلحات، فإن رؤيتهم الشمولية للدولة والمجتمع، القائمة على أيديولوجيا مركزية لا تقبل الاختلاف، هي في جوهرها نقيضٌ للعلمانية التي تحتضن التعددية والحياد تجاه المعتقدات. فالشيوعية، في صيغتها التطبيقية، لا تكتفي بكونها نظاما اقتصاديا واجتماعيا، بل تتمدد لتكون رؤيةً شاملةً للوجود، تفسر التاريخ، وتحدد المصير، وتفرض نمطا واحداً للتفكير والسلوك. إنها، بمعنى من المعاني، دينٌ علماني خاص بها، لا يترك مساحةً للفرد أن يختار طريقه أو معتقده بحرية، فكما أن الإسلامي يريد دولة تطبق الشريعة، فإن الشيوعي يريد دولةً تطبق النظرية الماركسية اللينينية في كل تفاصيل الحياة، كلاهما لا يرى في الدولة مجرد إطار حيادي لتنظيم حياة الأفراد، بل أداةً لفرض رؤية أيديولوجية معينة على المجتمع. هذا التشابه الخفي في رفض الحياد، وفي الرغبة في قولبة المجتمع وفق أيديولوجيا شاملة، هو ما يجع تحالفهما في فترات الأزمات أمرا محتملا، ففي النهاية، كلاهما يخشى الفراغ الأيديولوجي الذي تتركه العلمانية، وكلاهما يرى في الليبرالية والديمقراطية التعددية خطرا على مشروعه الأيديولوجي الذي يطمح إلى السيطرة الكاملة. في هذا المسرح العبثي الذي يُعرض على خشبة السودان المنهكة، حيث الأقنعة تسقط والوجوه تتكشف، يبدو أن قواعد اللعبة قد تغيرت جذريا، فالأيديولوجيات التي طالما كانت صروحا شامخة، تنهار أمام أمواج المصالح وتتعرى أمام رياح البراغماتية. الإسلاميون، بصلابتهم الأيديولوجية المزعومة، لا يجدون غضاضة في التحالف مع أعداء الأمس إذا كان ذلك يخدم أجندتهم في العودة إلى السلطة، والشيوعيون، بشعاراتهم اليسارية الطنانة، لا يجدون حرجا في دعم انقلاب عسكري وتطبيع علاقاتهم مع رموزه، إذا كان ذلك يفتح لهم بابا للعودة إلى المشهد السياسي والتحكم في جزء من السلطة. السودان، الذي يعيش أزمةً غير مسبوقة، يجد نفسه أمام سيناريو كارثي، وهو، تحالفٌ بين قوى، تبادلت الاتهامات بالعمالة والخيانة، لكنها تتحد الآن ليس من أجل بناء دولة ديمقراطية مدنية حقيقية، بل لترسيخ سلطة قائمة على الأمر الواقع، ولتقاسم النفوذ في ظل فوضى عارمة. إنها ليست عقلانية ولا وطنية ولا عملية، بل هي أقرب إلى الميكيافيلية في أبشع صورها، حيث لا قيم ولا مبادئ تعلو فوق كرسي الحكم. المشهد السوداني اليوم لا يقدم لنا فقط درسا في السياسة، بل في سوسيولوجيا السلطة أيضا، إذ كيف أن الأيديولوجيات، مهما بدت متنافرة، يمكن أن تذوب في بوتقة البراغماتية السياسية عندما يكون الهدف هو السيطرة، وكيف أن رفض العلمانية، بأشكاله المختلفة، يمكن أن يكون القاسم المشترك الذي يجمع المتناقضات الظاهرية، لإنتاج تحالفات قد تبدو مستحيلة، ولكنها في الواقع تكشف عن وجه آخر للحقيقة، وهي أن النزوع إلى التحكم والسيطرة، وإن اختلف اسمه، هو ما يجمع الإسلامي بالشيوعي حين تشتد الأزمة وتتبدل الولاءات، فليستعد السودانيون، فقد يجدون أنفسهم أمام نسخة هجينة من حكم الدين والطبقة، كلاهما يطمح لخلق الجنة على الأرض، وكلاهما قد ينجح في خلق الجحيم.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة