كان صباح ذلك اليوم هادئًا يحاكي طبيعة تلك المدينة الساحرة. توقفت أمام بوابة دار العجزة، استعدادًا لرحلة قصيرة نحو عيادة المدينة. كان كل شيء يسير طبيعيًا، عدا الاسم المثبت في الورقة أمامي؛ كان اسمًا سودانيًا صرفًا. تلوته بصوت خافت مشوب بالشك: هل يعقل أن يكون سودانيًا؟
ملامحه لم تقطع لي الشك باليقين حين لمحته أول مرة؛ فقد كان وجهه عجوزًا حفرت عليه الغربة أخاديد قساوتها ومرارتها، فأوشكت على طمس أي أثر يربطه بأصله السوداني.
صعد بخطوات متثاقلة، كآخر فصول رواية مأساوية. ارتمى في المقعد الخلفي بجسم واهن، وألقى تحية مقتضبة لكنها مشحونة بالود والاحترام. مما شجعني على سؤاله بلهجة سودانية: – إنت من وين يا عم؟
رفع رأسه بدهشة وأجاب بلهجة زادتني فرحة وسعادة: – من السودان، الأبيض… بس ما كنت متخيل ألاقي لي سوداني هنا.
اجتاحتني ابتسامة عريضة لم أستطع إخفاءها: – وأنا كمان من السودان… كأن الغربة رتبت لنا هذا اللقاء لتوقظ فينا شيئًا نائمًا.
صوّبت عيناي نحو المرآة واختلست نظرة، فرأيت وجهًا متهللاً مشرقًا، غير الذي رأيته أول وهلة. لكن لمسة الحزن ما زالت تأخذ حيزًا لا يخفى. ثم قال بصوت متهدّج: – والله يا ولدي أنا بعت الوراي والقدامي في السودان وجيت أمريكا دي قبل سنين… اشتغلت وربّيت أولادي، سهرت، وتعبت وعلّمتهم، لكن لما وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبًا، بعثوا بي إلى هذا المكان، ومن يومها ما عادوا.
انسدلت ستارة ثقيلة من الصمت، تسربت من خلالها أنفاسه المتقطعة. حاولت أن أخفف وقع كلماته: – الدم عمره ما بيصير مويه… يمكن يحنّوا يومًا ما.
ابتسم ابتسامة أخفت وراءها جبالًا من الأسف، وقال كمن يناجي نفسه: – أحيانًا المويه بتجرف الدم بعيدًا عن النبع… ولا يرجع أبدًا.
وصلنا إلى العيادة، فالتفت إليّ كأنه يهم بوداع الوطن لا السائق. قبض على يدي وهو يرتجف وهمس: – ملاقاتك اليوم ردّت لي بعض روحي وغمرتني بالدفء… لحظة حسبتها قد سقطت من دفتر السنين.
ذاب بين الجموع، ووقع خطواته صار صدى بعيدًا يكتب سؤالًا ضخمًا يبحث عن إجابة: هل حقًا نموت في الغربة مرتين… مرة حين يبتعد الوطن، ومرة حين يبتعد الأبناء؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة