بعد مُضيّ حوالي (٨٩٢) يوماً تقريباً علي حرب ال ١٥ من أبريل والتغيير الكبير الذي طرأ علي الواقع السُوداني جراء هذه الحرب سياسياً وإجتماعياً وإقتصادياً ، داخلياً وخارجياً ، وتأثيراتها العسكرية وعلي كافة أوجه الحياة المدنية كذلك ، و بكل ما شكلته وأفرزته علي حياة السُودانيين ، وإمتداد تأثيراتها السالبة حتي علي مُحيطنا الإقليمي و الأفريقي والدولي ، ومُجمل أضرارها علي حاضر ومُستقبل السُودان وأهل السُودان وحتي لأجيال لم تأتي فيه بعد. لُمعالجة كافة هذه التأثيرات والتوصل لحلول واقعية وعملية ومُمكنة نحافظ بها علي بلادنا وأرواح ومُقدرّات السُودانيين ، والإنتقال بها إلي واقع جديد وإستقرار في كافة المجالات وبناء ونهضة وتطور ، نحتاج حقيقةً لطرق مسارات جديدة والذهاب نحو منهج مختلف في التعامل مع هذا الواقع الصّعب بطريقة تضمن لنا المحافظة علي البلاد ووقف ليس الحرب فقط وإنما خط طريق جديد لإدارة الخلاف السياسي والصرّاع وعدم جعل الوصول للسُلطة هو السبيل لجعل السُودان مسرحاً للعنف وبرك الدماء والإجتثاث والإقصاء والتشفي والإنتقام. وكُل هذا إختصرته في عبارة ( الخروج من المتاهة) ، بإعتبار أننا للأسف فعليّاً داخلون فيها كبلد وشعب. من مُتابعاتي وبفعل التعاطي مع العمل والفعل السياسِي اليومي ومن التجربة العميّقة نسبياً في كُل محاولات وقف الحرب والتوصل لحلول في هذا الإتجاه ، وصلت لقناعة راسخة أننا نسيّر في إتجاهات إما (خاطئة) وإما (مُغلقة) ، بمعني أن هنالك حالة من فقدان الرؤية الصائبة التي تجمع السودانيين وتوقف الصرّاع أو تحوله من حالة العنف إلي الحالة السلميّة مع عدم توقف عجلة الحياة للشعب السُوداني ، ووقف موته وإبادته وتشرده ونزوحه وحمايته من حالة الإنتهاكات المتواصلة بحقه ، والأهم من كُل هذا المُحافظة علي وحدة البلاد في كافة أجزائها وجعل هذه الوحدة وحدة وطن ومصيّر مشترك لأمة تعيش فيه نعم (متنوعة) ولكنها ناجحة في العيش المُشترك ومُتمسكة بوطنها الكبير دونما تفريط فيه أو تجزئة له أو تعامل بلامبالاة معه ، أو كما درجنا علي تسميته بوطن الكُل يتساوي فيه ويسع الجميّع. للدخول في الإجابة علي سؤال كيفية الخروج من هذه المتاهة ، من الضروري بدايةً الإعتراف بفشلنا جميعاً حتي اللحظة في التوصل لصيغة لوقف كافة مظاهر العنف وعلي رأسها الحرب ، ورسم طريق لمستقبل البلاد يخرجنا كما أسلفت من حالة إدارة الصرّاع السياسي والإجتماعي بعيداً عن طريق العنف وأدواته وحالة الإحتراب والخصومات الطاغية هذه والإختلافات العميّقة غير المُفيدة والحالة التناحرية والتخلص من الآخر المُختلف عوضاً عن القبول به أو حتي الإعتراف به وباحقية وجوده. هنالك مسارات مُتعددة طرقناها داخلياً وخارجياً وجميّعها لم تنجح للأسف ، لسبب بسيط في تقديري وهو إختلاف درجات المصالح من ناحية ، أو لتمسك الأطراف المُتصارعة علي إختلافاتها بمواقفها وخطها الذي تسيّر عليه ، وهو ما نُسميه بالطرق أو المسارات (المُغلقة) ، والتي لاتقبل الإنفتاح ولا التنازلات ولا حتي المرونة ، والصحيح عندي أن الإنفتاح والتنازلات والمرونة هي التي توصل لحالة القبول بالإختلاف أولاً ومن ثمّ تسعي للتراضي حول صيغة وطنية ورؤية مبدئية وأُسس تجمع الكُل وبالإمكان السيّر عليها وإنزالها للواقع لتغييره للأفضل. الحادث الآن هو إصرّار لجعل حالة الحرب والعُنف والإختلافات التناحرية هي الحل ، ليس لخلق حالة أستقرار سياسِي وإجتماعي وإقتصادي وإنما للوصول لسُلطة باي وسيلة مع إستمرار حالة الصرّاع العنيف هذه حتي إن أدت لإنقسام أو تشظي للوطن والشعب. وأهمّ مظاهر هذه الحالة التناحرية ( المُغلقة) هو رفض الحوار الشامل المُشترك ، رفض الآخر المُختلف ، إحتكار الحقيقة المُطلقة والرؤية الصحيحة ، الإقصاء ، العيش في الماضي بكل سؤاته أو التركيز لعودته والإصرّار عليه ، وجر البلاد جراً لذلك ولمصيّر الفُرقة والإنقسام والتشظي. والأمر الآخر هو وجود قوي سياسية ومدنية معطوبة أو بها الكثير من الإختلالات التي إنعكس أثرها علي الفعل الإيجابي الذي يوقف الحرب وينتشل البلاد من مربع العُنف لحالة السلم والصرّاع السلمي حول السُلطة أو إدارة الخلافات السياسِية فيما بينها بشكل لا أقول ديمُقراطي تماماً ولكن علي الأقل به أخلاق السُودانيين والروح الوطنية التي تجمع أكثر من تُفرق وتُمزق. هنالك عدة أمور ونقاط علي جميّع الأطراف المُتصارعة عسكرياً وسياسياً الإنتباه لها ، وعدم القفز عليها أو تجاوزها. ١/الرفض الكبير للسُلطة القابضة والعسكرية ٢/الرفض الكبير لحالة إحتكار السُلطة والثروة والتهميش المُتعمّد لكثير من السُودانيين والتفرقة بين السودانيين والتمييز بينهم ٣/الرفض الكبير لفرض حالة الحرب علي السُودانيين وللوصول للسُلطة علي حسابهم حتي إن كان بالقضاء عليهم وإبادتهم وتشريدهم والإنتهاكات ضدهم ٤/الرفض الكبير لإحتكار المؤسسة العسكرية والجيش وتسيسها ورفض إصلاحها وإعادة بناؤها وهيكلتها وقوميتها وتجديد عقيدتها العسكرية ، مع الإقرار أنها وبتركيبتها الحالية أضحت جزء من الصرّاع ومؤجج له وناشرة للعنف بدلاً عن الأمن والأمان وغير داخلة في الصرّاع السياسِي ٥/الرفض الكبير للمليشيات وأدوات العنف خارج سيطرة الدولة وإحتكارها له بشكل ( ديمُقراطي) ومؤسسي ، وعلي رأس هذه المليشيات هي مليشيا الدعّم السريع والحركات المُسلحة وكتائب ومليشيات الإسلاميين والحركة الإسلامية. كُل هذا الرفض هو مردّه إنتاجه لحالة العُنف والحرب الحالية وعدم الإستقرار للبلاد والشعب السُوداني ، وأنها أصبحت قوي لإنتاج العُنف والإبادة والتطهير العرقي والإغتصابات وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بل وحتي جرائم الكراهية. يُضاف لنقاط الرفض التي ذكرتها الرفض الكبير لسلوك الحركة الإسلامية ومنهجها في محاولة التمسك بالعنف وأدواته بل وحتي إحتكاره ، وصناعة الكتائب والمليشيات مع تجيير المُؤسسة العسكرية وكامل المنظومة الأمنية لصالح أجندتها وبرنامجها السياسِي ، وكل ذلك هو الذي أدي لرفضها ليس في ذاتها كاحد القوي السياسِية أو الإجتماعية وإنما بسبب تبنيها للعنف والإصرار علي إحتكار السُلطة أو الوصول إليها عن طريقه. هنالك أمر آخر أيضاً ، وهو أن جزءاً من القوي المدنية والسياسِية و الثورية بات يرفضه مجموع كبير من السُودانيين مابعد الثورة والفشل الذي حدث في المُحافظة عليها وعلي مكتسباتها ، وركونها أي تلك القوي لطريق السُلطة وإستعادتها باي طريق حتي وإن كان في التحالف مع المليشيات وتحديداً مليشيا الدعم السريع أو التماهي مع أجندتها أو أجندة الخارج الدولي أو الإقليّمي مع وقوعها بالكامل في حالة إرتضاء التمويل الخارجي ومنظماته والصرف علي كافة أوجه نشاطها من خلاله ، وكل هذا لم ينعكس إيجاباً لابوقف الحرب والصرّاع العنيف علي السُلطة أو الخروج من هذه المتاهاة الحالية. أخيراً فإن الإنقسام الحالي للحرب الحالية وخلق حكومات تتنازع الشرعية وتحاول فرضها علي السُودانيين وفق سياسة الأمر الواقع وأماكن السيطرة علي الأرض ، أضاف عبئ آخر في طريق التوصل لحلول تحافظ علي الدولة ووحدتها وعلي السُودان أرضاً وشعباً وتصنع حاضر ومستقبل أفضل. إذاً للخروج من هذه المتاهة مهم جداً الآتي: ١/التعاطي مع كُل حالة الرفض التي ذكرتها بواقعية والإعتراف بها من كُل الأطراف المذكورة في الصرّاع سواء جيش أو مليشيات ، حركات مسلحة ، قوي مدنية سياسية إضافة للحركة الإسلامية والإسلاميين. ٢/الإعتراف بأن التمسك بالحلول العسكرية والصرّاع المُسلح والعُنف لن يخلق أي حالة من الإستقرار الوطني أو السياسِي ٣/قبول الجميّع ببعضهم البعض لصالح أن جميعنا سُودانيون علي كافة خلافتنا وإختلافاتنا السياسِية والمذهبية والعقائدية والفكرية والإثنية والمناطقية. ٤/الإنتقال للقبول بين الجميّع بالحوار والنهج السلمي والتفاوضي والتفاهم بدلاً عن الصرّاع المُسلح أو الحرب وأدوات العنف. ٥/التوصل لميثاق وطني للحل السِلمي الشامل ، تكون بدايته وقف الحرب الحالية وأدواته: ١/القبول بهدنة عسكرية طويلة ووقف إطلاق نار ٢/الإنتقال لوقف دائم لإطلاق النار ٣/وجود ترتيبات فنية وعسكرية وفصل للقوات ومراقبة لوقف النار من جهات إقليمية ودولية ومؤسساته والقبول بذلك من كافة أطراف الصرّاع ٤/تقديم كافة الدعم والعون الإنساني والصحي خلال هذه المرحلة وفتح المجال الداخلي والخارجي لذلك ٥/التمهيد لعودة كافة السودانيين والمنزحين واللاجئين والمُهجرّين ، وتوفير المُعينات لذلك وتوفير البئية المُناسبة لذلك ٦/التوافق علي علي وجود سُلطة إنتقالية مدنية وحكومة تصريف مهام بصلاحيات دستورية مُحددة ومدة قصيرة ٧/إطلاق عملية سياسِية شاملة وحوار وطني حقيقي والتوصل لمؤتمر دستوري لمناقشة كافة المُشكلات التي أعاقت التأسيس الصحيح للدولة السُودانية تنتهي مهام الحكومة المدنية المؤقتة وتصريف الأعمال بإنتهاء الحوار الوطني الشامل والمؤتمر الدستوري والدخول بعدها في مرحلة إنتقالية ديمُقراطية بسلطة مدنية كاملة وإتفاق وطني لمدة تتراوح مابين عامين وثلاثة تنفذ فيها مايتم التوصل إليه من خلال المؤتمر الدستوري ٨/تكوين لجنة لكتابة الدستور الوطني الديمُقراطي الذي يوحد الدولة ويفتح معها الطريق للتداول السلمي للسُلطة ويحقق المواطنة المتساوية والكاملة بين جميّع السُودانيين. ٩/توحيدالجيش وإعادة بنائه علي أسس وعقيدة قومية ومهنية جديدة وخروجه التام من السُلطة والسياسة والإقتصاد والصراع عليهم ، وأداء مهام الدستور المدني الديمُقراطي وحماية الدولة وحل جميّع المليشيات وجيوش الحركات ، وإستيعاب من يصلح وفق الترتيبات الأمنية وعمليات السلام الشامل العادل. ١٠/النص علي وحدة السُودان كمبدأ فوق دستوري ١١/الفصل بين السُلطة السياسِية والاديان نصاً كمبدأ فوق دستوري ١٢/إقرار الحكم الفيدرالي والنص عليه دستوراً ١٣/إعتماد الحكم المدني الديمُقراطي وفق الكيفية التي تنتج عن الحوار الشامل و توصيات المؤتمر الدستوري التأسيسي ١٤/مرحلة الإنتخابات الديمُقراطية والتي يتم التمهيّد لها بسن قوانينها وتشكيل مفوضياتها وتوقيتاتها خلال الفترة الإنتقالية التأسيسية.
العدالة الإنتقالية والجنائية والمُصالحة الشاملة:
تعتبر هذه الجزئية هامة جداً في تأسيس وبناء الدولة والإنتهاء من الماضي السئي والإنتقال لمستقبل أفضل ومُعافي لجميّع السُودانيين ، أساس العدالة الأنتقالية والجنائية وتحقيقها لمرحلتي ماقبل حرب ال ١٥ من أبريل وبعدها ليس هو الإنتقام أو التشفي وليس التغافل وإهدار الحقوق وإفلات الجناة من العقاب أو هضم حقوق الضحايا والمظلومين ، وإنما هو محاولة التأسيس لعدالة حقيقية نتجاوز بها مرارات الماضي وآلامه نحو مُستقبل أفضل ، والتوصل لصيغة وتجربة سُودانية خاصة وجديدة في الإعتراف و المصالحة يمكن لنا جميعاً صناعتها والقبول بها دونما إهدار للحقوق أو جنوح للتشفي وأن يكون جميع من أجرموا غير مُحصنين من تطبيق العدالة مع المحافظة علي روح القوانين وشراء المستقبل بدلاً عن الإنغماس في الماضي والعيش فيه.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة