الخلاف بين روسيا و أوروبا بجانب أنه محصورًا في أوكرانيا أو على حدود الناتو الشرقية ، إلا انه أصبح محورًا أساسيًا لإعادة تشكيل النظام الدولي . فما بدأ كغزو روسي لأوكرانيا في فبراير 2022 ، تحول تدريجيًا إلى صراع واسع الأبعاد يمزج بين العسكري و الاقتصادي و الأيديولوجي والجيوسياسي .
فمن الناحية الأمنية ، تنظر روسيا إلى توسع الناتو شرقًا باعتباره تهديدًا وجوديًا ، بينما تعتبره أوروبا ضمانة لأمنها . هذا التباين قاد إلى تعزيز الحشود العسكرية على حدود بولندا و دول البلطيق ، وجعل البحر الأسود و بحر البلطيق ساحتين مفتوحتين للاختبار و الردع . ومع استمرار التوتر ، وجدت أوروبا نفسها في حالة استنزاف أمني و مالي ، إذ ارتفعت نفقاتها الدفاعية رغم الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها إلي مستويات كبيرة .
أما على الصعيد الاقتصادي ، فقد أعاد الصراع رسم خريطة الطاقة العالمية . أوروبا قلّصت اعتمادها على الغاز الروسي لكنها دفعت ثمنًا باهظا في شكل ارتفاع أسعار الطاقة و زيادة التضخم . في المقابل ، وسّعت روسيا تجارتها مع الصين و الهند ، مما عزز محورًا اقتصاديًا شرقيًا مقابل الغرب . وبات الاعتماد على مورد واحد للطاقة أو الغذاء خطرًا استراتيجيًا ، وهو ما سرّع خطوات العالم نحو الطاقة المتجددة و تنويع سلاسل الإمداد .
وعلى المستوى الفكري ، أطلق الصراع موجة جديدة من الاستقطاب الأيديولوجي بين معسكرين متقابلين : الغرب الذي يتمسك بالديمقراطية الليبرالية ، و روسيا – الصين اللتان تروجان لنظام متعدد الأقطاب يقوم على سيادة وطنية بعيدة عن التدخل الغربي . هذا الاستقطاب خلق حرب سرديات تؤثر بوضوح على دول الجنوب العالمي ، التي تجد نفسها مضطرة للاختيار بين خطابين متناقضين .
انعكست هذه التطورات على العالم في عدة اتجاهات . فقد عادت أجواء الحرب الباردة لكن بصيغة جديدة متعددة الأقطاب تشمل أمريكا و أوروبا وروسيا و الصين و الهند . و تراجع دور المؤسسات الدولية مثل مجلس الأمن و الأمم المتحدة بعدما عجزت عن إدارة الأزمات أو فرض الحلول . كما تزايدت أزمات الغذاء و الطاقة ، مهددة حياة الملايين خصوصًا في إفريقيا و الشرق الأوسط . وإلى جانب ذلك تصاعد سباق التسلح النووي بفعل التهديدات الروسية ، ما قد يدفع دولًا أخرى إلى مراجعة خياراتها الاستراتيجية .
ومع أن السيناريوهات المستقبلية متعددة ، إلا أن إنهاء الصراع في المدى القريب يبدو مستبعدًا . فهناك احتمال استمرار حرب استنزاف طويلة تُبقي روسيا و أوروبا في حالة نزاع دائم ، أو الوصول إلى تسوية سياسية مؤقتة بضغط من قوى مثل الصين و تركيا لتجميد الوضع لا لحلّه جذريًا ، أو حتى تصعيد إقليمي قد يمتد إلى دول البلطيق أو مولدوفا و يفتح الباب لمواجهة مباشرة مع الناتو . وعلى المستوى الدولي ، يتجه العالم نحو نظام متعدد الأقطاب ، لكنه سيأتي بثمن باهظ من الفوضى و عدم الاستقرار .
الصراع الروسي – الأوروبي صار نزاع جيوسياسي ، ومعركة حول شكل النظام الدولي المقبل . أوروبا تسعى لضمان أمنها تحت مظلة الناتو ، بينما تحاول روسيا استعادة نفوذها التاريخي . وبين شدّ الطرفين ، يتحمل العالم كلفة عالية من أزمات اقتصادية و أمنية متتالية . المستقبل مرشح لظهور نظام دولي أكثر تنوعًا و تعددية ، لكنه سيكون أيضًا أكثر هشاشة و اضطرابًا .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة