لم تكن السكة حديد في السودان مجرد خيوط فولاذية تخترق فيافي الصحراء وسهول النيل الخضراء، بل كانت شرايين حيوية نابضة بدماء الاقتصاد الوطني، وأوتاراً موسيقية سحرية تعزف سيمفونية الحنين والشوق في قلوب السودانيين. فمع كل صفير “الوابور” - كما يحلو للسودانيين تسميته بحب وحنان - تنطلق رحلة مزدوجة الأبعاد: رحلة البضائع والثروات الوطنية نحو موانئ التصدير العالمية، ورحلة الأرواح والأشواق المتدفقة عبر دروب الذاكرة الجماعية والوجدان الشعبي العميق.
انبثقت هذه الملحمة الحضارية من رحم التاريخ عام 1874، حين مدّ الخديوي إسماعيل باشا أول سكة حديدية في السودان بين وادي حلفا وسرّاس، ثم توقفت لتُستأنف لاحقاً كسكة عسكرية “سكة كتشنر” في الفترة 1896-1899 من وادي حلفا إلى أبو حمد ثم عطبرة فالخرطوم، وبعدها رُبطت عطبرة ببورتسودان في الفترة 1904-1906. لتتحول تحت الإدارة البريطانية المحتلة إلى محرك اقتصادي جبار يضخ الحياة والنماء في عروق الوطن الفتي. فقد ساهم قطاع النقل العام (بما فيه السكك والموانئ والنقل النهري والخدمات التابعة) بنحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي أواخر الخمسينيات، ووظّفت السكة حديد عشرات الآلاف، وبلغت في أوجها أكثر من 30 ألف عامل من أبناء الوطن، فضلاً عن مئات الآلاف في القطاعات الاقتصادية المرتبطة بها، محولة إياها إلى قلعة اقتصادية شامخة راسخة.
ومع امتداد السكة حديد من وادي حلفا في أقصى الشمال إلى الخرطوم، ثم جنوب غرباً إلى الأبيض مع امتدادات إلى نيالا وواو (التي بلغتها السكة عام 1961)، وربط عطبرة وسنار ببورتسودان على ساحل البحر الأحمر شرقاً، تحولت السودان إلى قوة اقتصادية إقليمية لا يُستهان بقدراتها ومواردها. انساب القطن الأبيض الناعم من مشروع الجزيرة العملاق، حيث كان قطن الجزيرة عماد الصادرات لعقود؛ فبلغت مساهمة القطن أكثر من نصف الصادرات في أواخر السبعينيات (نحو 56% عام 1979/1980)، وكانت الجزيرة تنتج نحو 60% من القطن السوداني. والصمغ العربي النفيس من غابات كردفان الذي كان المورد الرئيسي لاقتصاد كردفان والسودان مطلع القرن العشرين، قبل أن تصعد هيمنة القطن خلال عشرينات وثلاثينيات القرن، والحبوب المتنوعة من سهول القضارف الخصبة، محمولة على ظهور القطارات في رحلتها نحو الأسواق العالمية، حاملة معها آمال أمة وأحلام شعب يسعى للنهضة والتقدم.
لكن السكة حديد تجاوزت حدود الأرقام والإحصائيات الاقتصادية الجافة لتنسج خيوطها الحريرية في نسيج الروح السودانية الأصيلة. حول محطاتها المنتشرة، ازدهرت مدن كاملة وانتعشت أسواق شعبية تنبض بالحياة والحيوية، وتدفقت الخدمات الأساسية من مياه عذبة وكهرباء منيرة، حتى غدت عطبرة “مدينة الحديد والنار”، شاهدة حية على هذا التزاوج العجيب بين الصناعة الحديثة والحياة الإنسانية الدافئة. لم تكن المحطات مجرد نقاط عبور باردة، بل كانت قلوب نابضة بالحب تحتضن الأنشطة الثقافية والرياضية المتنوعة، وتشهد يومياً على قصص الحب الخالدة والفراق المؤلم واللقاء المفرح.
وهنا تتجلى عبقرية الوجدان السوداني الفذة في تحويل آلة الحديد الصماء إلى كائن حي ينبض بالمشاعر الإنسانية ويتدفق بالأحاسيس المرهفة. فقد تغنى عثمان الشفيع في “القطار المر” من كلمات الشاعر الراحل محمد عوض الكريم القرشي، بألم الفراق المبرح وحرقة الانتظار القاسية، وأبدع أحمد الصادق في “القطار دور حديدو” من كلمات وألحان الشاعر عزمي أحمد، تجسيداً شعرياً رائعاً لقوة الحب الجارفة التي تفوق صلابة الحديد وقسوة المعدن البارد.
وتتوج هذه الملحمة الغنائية بتحفة “قطار الشوق” الخالدة، التي غناها ولحنها أولاً الفنان الرائد بابكر الحسن الزكار، ثم تغنى بها الفنان الرائع حسين شندي، وأبدعت البلابل في أدائها. هذه الأغنية التي تحمل في طياتها عبقرية شاعرية فذة وإبداعاً لحنياً ساحراً، تتضمن أبياتاً شعرية تصور القطار كحامل للأشواق والذكريات، وتجسد علاقة السودانيين العميقة بهذه الوسيلة التي ربطت بين قلوبهم وأحبائهم عبر المسافات الشاسعة. في هذه الكلمات الخالدة، يتجسد كل ما يمكن أن يحمله القطار من معانٍ إنسانية عميقة: الشوق للأحباب، والحنين للأوطان، والرجاء في اللقاء، والألم من الفراق. إنها ليست مجرد أغنية، بل ملحمة وجدانية تختزل تجربة شعب كامل مع وسيلة النقل التي ربطت بين قلوبهم وأرواحهم.
وتبلغ الاستعارة الشعرية ذروتها في أغنية فضل المولي “زنقار” الخالدة من كلمات الشاعر عبد القادر تلودي: “من بف نفسك يا القطار ورزيم صدرك قلبي طار وين الحبيب انت شلته جيبه يا القطار”، حيث يتجسد القطار كوسيط سحري بين عالمين، يلهث بأنفاس الحديد المتوهج ويخفق بقلب من نار، حاملاً على عاتقه رسالة مقدسة: أن يكون جسراً يعبر عليه العشاق نحو أحبائهم، وسفيناً تبحر به القلوب المشتاقة عبر محيطات المسافات لتلتقي بتوائمها الروحية.
ولم يقتصر دور السكة حديد على الاقتصاد والوجدان، بل امتد ليشمل السياسة والنضال الوطني. فكانت نقابة عمالها من أوائل النقابات السودانية تشكيلاً وأقواها تأثيراً في المجتمع، ولعبت دوراً محورياً في مقاومة الاستعمار والديكتاتوريات المتعاقبة، وأسهمت بقوة في الحراك الذي أطاح بنظامي عبود عام 1964 ونميري عام 1985، حتى أصبح منصب المشرف عليها أحد أخطر خمسة مناصب استراتيجية في البلاد زمن الاحتلال.
واليوم، وفي ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه السودان، تبرز الحاجة الملحة لإعادة إحياء السكة حديد وإعادتها إلى سابق عهدها كناقل وطني مؤثر وفعال في الاقتصاد السوداني. فالسودان في أمس الحاجة إلى استعادة هذا الشريان الحيوي الذي كان يوماً ما عصب الحياة الاقتصادية، وإعادة تأهيله بالتقنيات الحديثة والإدارة الرشيدة ليعود إلى دوره المحوري في نقل البضائع والركاب، وربط أقاليم البلاد المترامية الأطراف، وتحفيز النمو الاقتصادي في المناطق النائية. إن إعادة إحياء السكة حديد ليس مجرد مشروع بنية تحتية، بل هو استثمار في مستقبل السودان الاقتصادي والاجتماعي، واستعادة لرمز وطني عريق يحمل في طياته ذكريات الأجداد وآمال الأجيال القادمة. وهكذا، تبقى حكاية السكة حديد السودانية ملحمة حضارية فريدة تجمع بين عبقرية الاقتصاد وسحر الأدب الخالد، بين صلابة الحديد ورقة المشاعر الإنسانية النبيلة، بين حركة البضائع المادية وحركة القلوب الروحية المتدفقة. إنها قصة خالدة عن كيف يمكن للبنية التحتية أن تتحول إلى بنية روحية عميقة الجذور، وكيف يمكن للقضبان الحديدية الباردة أن تصبح أوتاراً سحرية دافئة تعزف أجمل الألحان العذبة في سيمفونية الحياة السودانية الخالدة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة