تتجه الأنظار هذه الأيام إلى نيويورك، حيث تستعد الجمعية العامة للأمم المتحدة لافتتاح دورتها الثمانين. وفي خضم هذه التحضيرات الدبلوماسية الروتينية، أعلن رئيس الوزراء السوداني، السيد كامل إدريس، عن نيته الصادقة، أو هكذا يبدو، طرح قضية حصار الفاشر المأساوية أمام هذا المحفل الدولي العتيد. إعلانٌ، كغيره من الإعلانات التي اعتادت الآذان السودانية على سماعها، يلقي بظلاله الكثيفة من الشك والريبة، ويُثير تساؤلا جوهريا، وهو: هل سيفك رئيس الوزراء كامل إدريس حصار الفاشر بالحجج البديعة والأوهام الخطابية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة؟ لقد عوّدنا المشهد السياسي السوداني على جرعات مكثفة من السياسة المخدرة والمنومة، التي تعد بالكثير ولا تجلب إلا المزيد من الانتظار واليأس، فحصار الفاشر، الذي يرزح تحت وطأته أهلنا الصامدون لأكثر من عامين، لم يكن حدثا مفاجئا أو غريبا على سجل الصراع في بلادنا، بل إنه امتدادٌ لمعاناة لا تُوصف، تجسّدت فيها أبلغ صور الخذلان والتخاذل من قبل كل من ادعى القدرة على الفعل. لقد سمعنا مرارا وتكرارا، وفي كل مناسبة ودون مناسبة، عن وعود نارية حماسية بفك الحصار، من القوات المسلحة السودانية، التي لم تتمكن من اختراق خطوط الميليشيا المحاصِرة، وبدأت عاجزة عن تغيير معادلة الصمود السلبي. أما قادة الحركات الدارفورية المسلحة، التي تقاتل إلى جانب الجيش، فقد أطلقوا التصريحات النارية تلو التصريحات، وقطعوا على أنفسهم وعودا جازمة بفك الحصار، ورفع الكرب عن أهل الفاشر، لكن، وكما هو الحال في كثير من فصول الدراما السودانية، كانت هذه الوعود مجرد فقاعات هوائية تتبخر في الأثير، وتترك خلفها خيبات أمل تُضاف إلى رصيد الشعب المتزايد من الانكسار. الحقيقة المُرّة، هي أن الفضل كل الفضل في صمود الفاشر وعدم سقوطها حتى الآن، يرجع لسكانها الصامدين، الذين يواجهون الموت جوعا وقصفا باللحم الحي، بينما ينشغل ساسة بورتسودان ببيانات الإدانة والخطابات الرنانة. يأتي إعلان السيد رئيس الوزراء، الدكتور كامل إدريس، عن نيته مخاطبة الجمعية العامة للأمم المتحدة للمطالبة بفك حصار الفاشر، كجرعة جديدة من هذا التخدير السياسي، إذ هل يعتقد حقا أن خطابا دبلوماسيا، مهما بلغت فصاحته أو دقة صياغته، سيصمد أمام رصاص الميليشيا الغاشمة؟ هل سيتمكن صوته، وهو يصدح من على منصة الأمم المتحدة، من إزاحة آلاف المقاتلين المدججين بالسلاح الذين تحيط ميليشيا الدعم السريع بهم الفاشر من كل حدب وصوب؟ إن هذا التوجه يثير تساؤلا خطيرا حول رؤية القيادة السياسية السودانية للواقع، وهو: هل رئيس الوزراء السوداني، غبي أم يعتقد الغباء في السودانيين؟ هل حقاً يرى في الاستنفار الأخلاقي للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، سحرا كافيا لكسر حصار عسكري دموي؟ لقد بات من الواضح أن هناك انفصالا جليا بين الواقع على الأرض وبين النظرة التي يتبناها ساسة بورتسودان بما فيهم كامل إدريس. الفاشر لا تحتاج إلى (تعاويذ سحرية)، أو خطابات تُتلى في قاعات نيويورك الفخمة، بل تحتاج إلى تحرك عسكري حاسم يرفع عنها الظلم ويزيح عنها المحنة. لا يمكن لأي خطاب، مهما علت نبرته، أن يصف الفظائع التي ترتكبها قوات الدعم السريع في الفاشر. فقبل يوم واحد فقط من إعلان السيد إدريس، تعرض مسجدٌ في حي الدرجة الأولى لقصف وحشي أودى بحياة 75 شخصا، هذا ليس رقما إحصائيا عابرا، بل هو مجزرة أخرى تُضاف إلى سجل طويل من الانتهاكات التي تشمل: القتل الجماعي والقتل على أساس عرقي: حملات ممنهجة تستهدف حياة الأبرياء. العنف الجنسي: جريمةٌ لا تغتفر تُمارس بحق النساء والفتيات. التهجير القسري واحتلال المنازل: تشريد الآلاف والاستيلاء على ممتلكاتهم. الهجوم على مخيمات النزوح ومراكز الإيواء: استهدافٌ للملاذات الأخيرة للبائسين. تدمير البنى التحتية: محطات مياه ومرافق صحية أُبيدت، مما يُحرم السكان من أبسط مقومات الحياة. لقد تحولت الفاشر إلى سجن كبير، حيث تُمنع السلع والإغاثة والأدوية، ويُقتَل كل من يُظَن أنه يحاول إيصال الغذاء على ظهر الدواب، وبات سكانها يعتمدون على علف الحيوانات في غذائهم، ونقص الأكفان أجبرهم على دفن ضحايا القصف في الأكياس البلاستيكية. في هذا السياق المروع، يبدو الحديث عن خطاب أممي كأنشودة حزينة تُعزف على أطلال مدينة تحتضر، بينما يطالب رئيس الوزراء المجتمع الإقليمي والدولي ومجلس الأمن بتحمل واجباتهم، منتقدا الصمت الدولي على تطاول أمد الحصار، ولكن هل كان صمت المجتمع الدولي يوما سببا في تحركه، أم أن التحرك يأتي استجابةً للقوة على الأرض؟ إن الخطابات الدبلوماسية، واللقاءات الرفيعة المستوى، قد تكون جزءا من العمل السياسي، لكنها ليست عصا سحرية تُبدل الواقع المرير في السودان، إنها قد تلوّن الصورة، وقد تخلق وهما بالتحرك، لكنها لا تُطعم جائعا، ولا تشفي مريضا، ولا تُوقف قذيفةً تتجه نحو مسجد ممتلئ بالمصلين وسوقا شعبيا مكتثا بالأبرياء. لقد عاهد رئيس الوزراء شعبه بأن يعمل كل ما في وسعنا وجهدنا لفك الحصار على الفاشر الذي سيكون قريبا، وستظل المدينة عصية على الغزاة. هذه الكلمات، التي كان من الممكن أن تبعث الأمل في نفوس أُنهكت من الانتظار، باتت تُتلى على خلفية سجل حافل بالوعود المكسورة. وبينما يستعد السيد رئيس الوزراء لإلقاء بيانه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإن السؤال المطروح بمرارة في أذهان السودانيين، ليس عن فحوى الخطاب، بل عن جدواه. هل ستكون هذه مجرد جرعة أخرى من السياسة المخدرة التي تُسقى للشعب السوداني، بينما تواصل الفاشر احتضارها بصمت، أم أن هناك خطة حقيقية وملموسة، تتجاوز الكلمات البراقة والوعود العرقوبية، لفك الحصار وتخليص أهلها من هذا الكابوس؟ المؤشرات كلها تدل على أن ما يعد به السيد كامل إدريس شعبه، لن يجلب شيئا ملموسا للفاشر، بل هو استمرارٌ لسياسة أثبتت فشلها مرارا وتكرارا، فالفاشر لا تنتظر خطاب من نيويورك، بل تنتظر أفعالا حاسمةً على الأرض، أفعالا تترجم صمود أهلها إلى انتصار حقيقي، بدلا من أن تُعلّق آمالهم على الخطابات الدولية التي أُجهضت قبل أن تُلقى. هكذا، وبينما يلمع السيد رئيس الوزراء حذاءه استعدادا للصعود إلى منصة نيويورك الفخمة، يواصل سكان الفاشر سلخ جلد البقاء اليومي بين الطيران المنخفض وقذائف الهاون بلحمهم الحي، فلا نيويورك تملك مفتاح أبواب الفاشر المغلقة، ولا غوتيريش، حتى ولو ارتدى عباءة سوبرمان، يستطيع إسقاط حمولة خبز أو قافلة دواء من نافذة بيانه السنوي. ولتأكيد العبث، لم يبقَ على رئيس الوزراء، إلا أن يستعين بخبراء الإتيكيت ليعلّموه كيف يُلقي خطاب هروب للأمام بابتسامة دبلوماسية تحفظ له ماء الوجه على شاشات الفضائيات، بينما يمسح أطفال الفاشر الصدأ عن صحونهم الفارغة. كفاكم تمثيلا على هذه المسرحية السوداء، فالشعب السوداني لم يعد بحاجة لمن يقرص خده بخطاب أممي جديد ليشك في يقظته. كل بيان يصدر من أعلى برج أممي، صار أشبه بحبة منوّم ليلية، تخدير مؤقت ثم كوابيس الصحو على ضجيج المدافع. الفاشر لن تُفك شيفرتها بخطاب بليغ في نيويورك ولا ببيان رتيب سيضيع في دهاليز الأرشيف الدولي، بل بحاجة لمفتاح جاد واقعي يُفتح من الداخل، من يد الجيش الذي يرفع شعار حماية الوطن ويمشي في جنازته، فلتدعو نيويورك لمشاهدة الحدث من المدرجات، لأن الفاشر تعلم جيدا أن حبل الإنقاذ لن يُرسل لا من فوق الأطلسي ولا من مقر الأمم المتحدة، وأن الضحك على الذقون بلغ من الوقاحة درجة صار معها صبر الناس يحمل شهادة دكتوراه فخرية في التحمل. كفاكم خداعا يا سادة بورتسودان، ودعوا الشعب السوداني يرتاح من أكاذيبكم، أو على الأقل، اختاروا خطابات بجرعات مخدرة أقل، حتى يستبقي الناس شيئا من وعيهم ليلعنونكم به.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة