في قلب المشهد السوداني المأزوم، تتبدّى محاولات الإسلاميين لاستمالة الحزب الشيوعي وكأنها لعبة على حافة التناقضات، يختلط فيها التكتيكي بالاستراتيجي، والمصالح بالرهانات على المستقبل. ليست القضية مجرّد جسور تُمد أو مصالح تُقايض بل امتحان لتركيبية السياسة السودانية التي اعتادت أن تلد من رحم الأزمات تحالفات هجينة لا تُبقي على وضوح الخطوط الفاصلة بين الخصوم. ما نسعى إليه هنا ليس إصدار حكمٍ قاطع، بل تقديم قراءة صافية للواقع الراهن، تحلّل دوافع الأطراف وأدواتها وتفكّك المخاطر الكامنة في هذا المسار، ثم ترسم للحزب الشيوعي ملامح طريقٍ قد يجعله أكثر حصانة أمام إغراءات اللحظة. لماذا الآن؟ قراءة في السياق والتحولات لم تأتِ هذه المحاولات من فراغ، بل هي ثمرة تحوّلات ضاغطة أزاحت توازنات الأمس وأعادت صياغة أسئلة الحاضر. انهيار تحالفات ما بعد الثورة: الحرب بدّدت الثنائية القديمة بين المدني والعسكري، ودفعت الإسلاميين للبحث عن مقعد جديد على طاولة مكسورة. الحاجة إلى شرعية متجددة: بعد سقوطهم في 2019، يسعى التيار الإسلامي إلى بعث نفسه في ثوب "التوافق الوطني" محاولاً غسل ذاكرة الناس من أثقال التجربة السابقة. ضعف القوى المدنية وتشرذمها: هذا الضعف جعل الحزب الشيوعي، رغم ما فقده من نفوذ، هدفاً مغرياً بحكم رمزيته وتماسك قاعدته. أدوات الاستمالة- بين الإغراء والضغط لم تكن المناورة خطاباً مجرداً، بل تجسّدت في أدوات ملموسة: استرداد المقرات- عرض المساعدة في إعادة "دار الحزب" ليس سوى طُعمٍ سياسي مغلف ببعد عاطفي. قنوات غير رسمية وساطات وموفدون يتحدثون عن "فتح صفحة جديدة". خطاب المصالحة الوطنية كلمات ناعمة عن وحدة الصف ونسيان الجراح، لكنها تحمل في طياتها مشروع إعادة تدوير السلطة.
لماذا قد ينجذب بعض الشيوعيين؟ الضعف قد يولّد وهماً بالمنفعة، والضغط قد يفتح شهية الواقعية السياسية: إرهاق طويل من سنوات المطاردة والقمع يجعل الحلول السهلة مغرية. غطاء خدمة الشعب يمنح أي تفاهمات صورة أخلاقية زائفة. انقسام داخلي بين من يتمسّك بالمبدأ ومن يراهن على تكتيك اللحظة. المخاطر الاستراتيجية- فخ أكبر من المكاسب لكن ما يبدو حلاً عاجلاً قد يكون باباً إلى خسارة أكبر: شرعنة العسكرة- كل تقارب يمنح السلطة القائمة سنداً إضافياً. فقدان المصداقية- تناقض مع الخط التاريخي الرافض للاستبداد الديني والعسكري. تفكك داخلي- خلاف بين المبدئيين والواقعيين يهدد كيان الحزب ذاته.
تجريف السياسة- اختزال الصراع في مقايضات على مقرات ومنافع آنية.
خارطة طريق للشيوعيين إن كان من دربٍ آمن، فهو في وضوح الموقف وصلابة المبدأ: رفض أي تفاوض سري أو منفرد، وإعلان المواقف بلا مواربة. بناء جبهة مدنية عريضة تصون المشروع الديمقراطي من الاختراق. الفصل بين الحقوق والصفقات، فالمقرات تُستعاد بالقانون لا بالمقايضة. خطاب إعلامي موحّد يفضح الإغراءات ويكشف دوافعها. تأكيد أن الديمقراطية ليست خياراً بين خيارات، بل قدرٌ وحيد لمستقبل البلاد.
معركة الرواية والمستقبل ليست محاولات الاستمالة مجرد مناورة عابرة، بل صراع على الرواية التي ستُكتب باسم السودان غداً: هل سيكون دولة تُدار عبر تحالفات فوقية من المصالح، أم مشروعاً مدنياً ديمقراطياً ينهض على ثقة الجماهير؟ على الحزب الشيوعي أن يعي أن قوته لم تكن يوماً في مقره أو ممتلكاته، بل في ثباته على المبدأ. هنا يكمن الخيار التاريخي: الانزلاق في فخ التطبيع أو البقاء حارساً لضمير الثورة وذاكرة الشعب.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة