بقلم الطيب كاتب وباحث في قضايا القيادة والاصلاح المؤسسي
المؤامرة التي استهدفت الثورة السودانية لم تبدأ بالحرب، بل بدأت بالانقلاب العسكري في الخامس والعشرين من اكتوبر الفين وواحد وعشرين. تلك كانت الصفحة الاولى من كتاب الردة، حين قرر مجرم الحرب عبد الفتاح البرهان ان يجهض حلم السودانيين في وطن ديمقراطي موحد، عبر انقلاب دموي اطاح بحكومة الفترة الانتقالية، وفتح الباب امام الفوضى والانقسام. وحين فشل الانقلاب في تحقيق اهدافه، انتقل المتآمرون الى الصفحة الثانية من كتابهم، وهي الحرب. حرب صممت بعقلية امنية انتقامية، هدفها القضاء على قوات الدعم السريع خلال ساعات، وفقا لسيناريوهات رسمتها غرف الفلول واجهزة الدولة العميقة. لكن الحرب فشلت، ليس فقط عسكريا، بل سياسيا واخلاقيا، لانها كشفت جوهر المؤامرة واهدافها الحقيقية. إن الهدف الحقيقي لم يكن القضاء على الدعم السريع، بل القضاء على مكاسب ثورة ديسمبر المجيدة. تلك الثورة التي وحدت ارادة الشعب السوداني، واحيت آماله في وطن حر، ديمقراطي، وعادل. ارادوا تمزيق الحلم، واعادة انتاج الطغيان، لكنهم اصطدموا بجدار الارادة الشعبية الذي لا يكسر. القوى الضالعة في هذه المؤامرة متعددة، لكنها تتقاطع في مصالحها الطبقية والانتهازية. على رأسها فلول نظام الانقاذ المجرم، الذين اعادوا تموضعهم داخل مؤسسات الدولة، واستخدموا الحرب كوسيلة لاعادة انتاج سلطتهم. الى جانبهم، انحازت قوى انتهازية ظلت تتاجر بقضايا الهامش، لكنها في الواقع وجدت مصالحها في معسكر الحرب، حيث المال والسلطة والامتيازات. اما الحزب الشيوعي، فقد اختار الاصطفاف مع معسكر الحرب، رغم ادعاءاته الزائفة بالدفاع عن البروليتاريا. قيادته المستفيدة طبقيا من حالة الاستغلال والتهميش، وجدت في الحرب فرصة لتصفية خصومها السياسيين، ولو على حساب دماء الابرياء. الحرب التي اشعل فتيلها مجرم الحرب البرهان، لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل كانت لحظة فرز سياسي واجتماعي واقتصادي. فقد افرزت واقعا جديدا، اصطف فيه دعاة الردة والظلام من جهة، وقوى الثورة والحرية من جهة اخرى. هذا الاصطفاف كشف الحقائق، واسقط الاقنعة، واعاد تعريف الصراع في السودان بوصفه معركة بين مشروع وطني جامع، ومشروع فلولي انتقامي. المؤامرة التي ظن المتآمرون انها ستكسر ارادة اهل الهامش وتدفعهم الى الخضوع والانكسار، جاءت بنتائج عكسية تماما. فقد ايقظت الحرب وعي الفقراء والكادحين والمزارعين والرعاة وسكان البادية، وجعلتهم في مواجهة مباشرة مع القوى الطفيلية التي ظلت تستغلهم لعقود، وتوظف قضاياهم في مخططات تتقاطع مع مصالحهم وتتناقض مع تطلعاتهم. هذه القوى، التي تتغذى على التهميش وتعيد انتاجه، وجدت نفسها في مواجهة شعب قرر ان ينهض ويكسر دائرة الاستغلال. لقد قلبت الحرب الموازين رأسا على عقب، وخلقت نقلة نوعية في الوعي السياسي لدى اهل الهامش. هذا الوعي الجديد لم يبق معزولا، بل تكامل مع وعي قوى الثورة في المركز، ووجد الجميع ان مصلحتهم المشتركة تكمن في بناء دولة مدنية ديمقراطية فيدرالية علمانية، تقطع الطريق امام القوى الطفيلية والانتهازية التي ظلت تؤجج الصراع وتفتعله، لتضمن بقاءها على حساب المصلحة الوطنية العليا. لكن ما لم يحسب له المتآمرون حسابا، هو ان الشعب السوداني لا يكسر. لقد قاوم بشراسة لاكثر من عامين، ورفض الانكسار، وظل يقاتل من اجل حلمه في وطن حر، موحد، وديمقراطي. وسيمضي في مقاومته، حتى يجهز على كل المؤامرة الشريرة ورموزها، ويعيد بناء وطنه على اسس الحرية والعدالة والسلام. وفي الختام، الاشادة بصحوة الضمير العالمي، التي بدأت تتبلور في دعم خيار الدولة المدنية في السودان. هذا التحول الدولي، وان جاء متأخرا، يعكس ادراكا متزايدا بان مستقبل السودان لا يبنى على الانقلابات والحروب، بل على ارادة شعبه الجسور، الذي قدم التضحيات من اجل وطن حر وموحد. الدولة المدنية التي تحافظ على وحدة السودان، وتحترم ارادة ابنائه، قادمة لا محالة، شاء من شاء، وابى من ابى. لا مكان للكيزان في السودان الجديد، ولا مستقبل لمن تاجروا بالحرب والانقسام. فالشعب السوداني قرر، ولن يتراجع، وسيظل يقاتل، حتى يسقط كل مشاريع الردة، ويعيد بناء وطنه على اسس الحرية والعدالة والسلام.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة