منذ الاستقلال، ظل السودان يتأرجح بين الانقلابات العسكرية والانتفاضات الشعبية، دون أن يتمكن من تثبيت دعائم نظام ديمقراطي مستقر. جوهر المعضلة لا يكمن في سؤال الهوية (مدنية أم إسلامية)، ولا في الإرث الديني والثقافي وحده، بل في عجز النخب والقوى السياسية عن بناء توافق سياسي مؤسسي يؤسس لمسار ديمقراطي قابل للحياة. تستند هذه القراءة إلى أطروحة هشام العلوي في كتابه الإسلام والديمقراطية في العالم العربي، التي تعطي الأولوية للسياسة على الدين في مسارات الانتقال الديمقراطي. ومن خلال هذا المنظور، يمكن فهم أزمة السودان الراهنة كأزمة سياسة بلا توافق أكثر من كونها أزمة هوية أو دين. أولاً السودان بين النموذجين المصري والتونسي تونس بعد 2011: التوافق المرحلي بين الإسلاميين واليساريين منح مؤسسات الدولة فرصة للنمو وأجّل صراع الهوية. مصر غياب التسوية بين القوى السياسية عجّل بالانقلاب العسكري وأجهض المسار الديمقراطي. السودان أقرب إلى مصر، حيث الاستقطاب الحاد وانعدام التسوية، مع إصرار كل طرف على حسم المعركة لصالحه، بينما تغيب المؤسسات الحامية للتوازن. ثانياً أزمة التوافق السياسي في السودان التعددية والانسداد- كثرة الفاعلين (الإسلاميون، المدنيون، الجيش، الحركات المسلحة) بلا ثقافة تسوية جعلت كل محاولة انتقال تتحول إلى حرب مواقع. جدل الهوية قبل بناء المؤسسات- الانشغال المبكر بمسألة "مدنية/إسلامية" الدولة عطّل بناء مؤسسات يمكنها إدارة هذا الجدل لاحقًا. الجيش كحاكم مقيم- تكرار تدخل الجيش في السياسة جعل أي عملية انتقال مهددة بالانقلاب، خاصة مع اعتياد النخب على طلب وصايته. الحركات المسلحة - بدلاً من أن تكون عنصر استقرار في العملية السياسية، ساهمت في تجزئة المشهد عبر أجندات إقليمية ومحاصصة سلطوية. ثالثاً دروس مقارنة من تونس التوافق لا يعني نهاية الصراع، بل تجميد الخلاف مؤقتًا لحماية المؤسسات الناشئة. من مصر تجاهل ثقافة التسوية يقود سريعًا إلى العسكر. من أميركا اللاتينية الديمقراطيات استقرت حين قبلت القوى المتصارعة "صفقات انتقالية" ضمنت للجميع حدًا أدنى من البقاء السياسي. رابعاً ما المطلوب سودانياً؟ إعادة ترتيب الأولويات وقف جدل الهوية الآن، والتركيز على بناء مؤسسات (برلمان، قضاء، إدارة مدنية). الصفقات المرحلية على القوى السياسية عقد صفقات مؤقتة تضمن التعايش، بدل التمترس خلف شعارات الإقصاء. تقييد دور الجيش الانتقال لا ينجح ما دام الجيش طرفًا سياسيًا. يجب إعادة تعريف دوره كمؤسسة وطنية تحت رقابة مدنية. تضمين الهامش لا يمكن تجاهل الحركات المسلحة والأقاليم، لكن الحل ليس المحاصصة، بل إشراكها في عملية بناء الدولة على أساس المواطنة.
*إن معضلة الانتقال الديمقراطي السوداني ليست معركة بين الدين والعلمانية، بل أزمة سياسة غارقة في الاستقطاب وغياب ثقافة التسوية. وفق منظور "السياسة قبل الدين"، يبقى الطريق الوحيد هو: بناء مؤسسات قوية قبل أي حسم أيديولوجي. عقد صفقات مرحلية لحماية الانتقال من الانهيار. إرساء فن التسوية كبديل عن وهم الانتصار النهائي. بدون ذلك، سيبقى السودان أسير دورة الانقلابات والحروب الأهلية، عاجزًا عن بناء ديمقراطية قابلة للبقاء.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة