في لحظة فارقة من التحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، تبرز الاتفاقية الدفاعية بين السعودية وباكستان كواحدة من أكثر الخطوات إثارة للجدل والتأويل في المشهد الإقليمي والدولي. هذه الاتفاقية، التي وُقعت وسط مراسم رسمية غير معتادة، لا تعكس فقط تقاربًا عسكريًا بين بلدين تربطهما علاقات تاريخية، بل تعيد تشكيل معادلة الردع في المنطقة، وتفتح الباب أمام سيناريوهات استراتيجية غير مسبوقة.
السعودية، التي لطالما اعتمدت على المظلة الأمنية الغربية، تبدو اليوم وكأنها تعيد تعريف أمنها القومي من خلال شراكة مع قوة نووية إسلامية. هذا التحول لا يأتي من فراغ، بل من تراكمات خيبات أمنية، وتراجع الثقة في الحماية الأمريكية، وتصاعد التهديدات من أطراف إقليمية مثل إيران، ومن تحركات إسرائيلية باتت أكثر جرأة في محيط الخليج. في هذا السياق، تبدو الرياض وكأنها تبحث عن بديل أكثر التزامًا، وأكثر استعدادًا للردع، وأكثر انسجامًا مع أولوياتها الاستراتيجية.
توقيت الاتفاق لم يكن عشوائيًا، بل جاء بعد أيام من هجوم إسرائيلي على قيادات حماس في قطر، وهو ما فسره مراقبون بأنه رسالة سعودية واضحة لإسرائيل بأن الرياض تعيد رسم خطوطها الحمراء، وتُعيد تعريف تحالفاتها الإقليمية بعيدًا عن الإملاءات الغربية. في هذا السياق، يُنظر إلى الاتفاق كجزء من استراتيجية سعودية أوسع تهدف إلى بناء منظومة أمنية مستقلة، تتجاوز الاعتماد على واشنطن، وتُعيد تموضع المملكة كقوة إقليمية ذات سيادة كاملة في قراراتها الدفاعية.
من جانبها، تجد باكستان في هذه الاتفاقية فرصة لإعادة تثبيت موقعها كفاعل إقليمي مؤثر، بعد سنوات من الانكفاء الداخلي والأزمات الاقتصادية. الاتفاق يمنحها دورًا جديدًا في أمن الخليج، ويعزز من مكانتها في معادلة التوازن النووي، حتى وإن لم يُعلن رسميًا عن أي نقل للتكنولوجيا أو مظلة نووية. التصريحات الرسمية من الطرفين تتجنب الإشارة المباشرة إلى الملف النووي، لكن لغة الاتفاق، وتوقيت التوقيع، وتركيبة الوفود، كلها تشير إلى أن ما تم الاتفاق عليه يتجاوز التعاون العسكري التقليدي.
ولا يمكن فصل هذا الاتفاق عن السياق الاقتصادي الذي تمر به باكستان. فالدعم المالي السعودي، الذي شمل ودائع بمليارات الدولارات وتأجيل مدفوعات نفطية، كان دائمًا جزءًا من العلاقة بين البلدين، لكنه اليوم يتحول إلى رافعة استراتيجية تمنح إسلام آباد دورًا جديدًا في أمن الخليج.
القلق الدولي من هذه الاتفاقية لا يقتصر على واشنطن، بل يمتد إلى نيودلهي وتل أبيب، حيث يُنظر إلى أي تقارب نووي بين الرياض وإسلام آباد كتهديد مباشر لمعادلات الردع القائمة. الهند، التي تخوض سباقًا نوويًا مع باكستان منذ عقود، ترى في هذا الاتفاق احتمالًا لتوسيع نطاق التهديد النووي، بينما تعتبر إسرائيل أن أي مظلة نووية في الخليج قد تُقيد قدرتها على المناورة العسكرية في المنطقة.
هذا القلق قد يدفع نحو مزيد من التدقيق في البرنامج النووي الباكستاني، وربما إلى ضغوط دولية جديدة على إسلام آباد، خاصة إذا ظهرت مؤشرات على تعاون تقني أو لوجستي يتجاوز الإطار الدفاعي التقليدي. التصريحات المتضاربة بين الطرفين تزيد من هذا الغموض، ففي الوقت الذي يؤكد فيه وزير الدفاع الباكستاني أن الأسلحة النووية ليست جزءًا من الاتفاق، يصرح مسؤول سعودي بأن الاتفاق يشمل (جميع الوسائل العسكرية)، ما يفتح الباب أمام تأويلات واسعة حول ما إذا كانت الرياض قد حصلت فعليًا على مظلة نووية غير معلنة من إسلام آباد.
لكن الاتفاق لا يُقرأ فقط من زاوية الردع النووي، بل من منظور أوسع يعيد ترتيب التوازنات داخل الخليج نفسه. فدول مجلس التعاون الخليجي قد تجد نفسها أمام واقع جديد، حيث تتخذ السعودية خطوات أمنية منفردة خارج الإطار الجماعي التقليدي. هذا قد يدفع بعض الدول، مثل الإمارات أو قطر، إلى إعادة تقييم مواقفها الأمنية، أو إلى السعي نحو تحالفات موازية تحفظ لها استقلالية القرار. وفي حال توسع الاتفاق ليشمل تعاونًا ثلاثيًا أو رباعيًا، فقد نشهد ولادة محور أمني جديد في المنطقة، يتجاوز الانقسامات التقليدية.
في خلفية هذا التحالف، تبرز الصين كلاعب غير معلن لكنه حاضر بقوة. فبكين تُعد شريكًا اقتصاديًا وعسكريًا لكل من السعودية وباكستان، وقد ترى في هذا الاتفاق فرصة لتعزيز نفوذها في الخليج، خاصة في ظل تراجع الدور الأمريكي. التحالف السعودي–الباكستاني قد يُفسر ضمن استراتيجية صينية أوسع لتثبيت حضورها في غرب آسيا عبر أدوات غير مباشرة، دون الدخول في صدامات مكشوفة مع واشنطن.
من زاوية أخرى، يُحتمل أن يُعيد الاتفاق صياغة ملف التطبيع بين السعودية وإسرائيل. فالمملكة، التي كانت تقترب تدريجيًا من التطبيع، قد تستخدم هذا التحالف كورقة ضغط تفاوضية، أو كضمانة أمنية بديلة تُخفف من الحاجة إلى تحالفات مكشوفة مع تل أبيب. وفي حال تصاعد التوتر، قد يُصبح الاتفاق عائقًا أمام التطبيع، أو دافعًا لإعادة تعريف شروطه.
التحالف أيضًا يحمل بعدًا شعبيًا ودينيًا لا يمكن تجاهله. فالتقارب بين دولتين مسلمتين، إحداهما نووية، قد يُثير مشاعر إيجابية في بعض الأوساط الإسلامية، ويُعزز من سردية (الردع الإسلامي) في مواجهة التهديدات الإقليمية. لكنه في الوقت ذاته قد يُثير قلقًا دوليًا من عسكرة الخطاب الديني، خاصة إذا تم توظيف الاتفاق في سياقات أيديولوجية أو شعبوية.
ويبقى السؤال الأهم، هل يمتلك الطرفان القدرة الفعلية على تنفيذ بنود الاتفاق؟ فباكستان، رغم قوتها العسكرية، تواجه تحديات لوجستية في الانتشار السريع خارج محيطها، والسعودية، رغم قدراتها المالية، لا تملك بعد بنية تحتية متكاملة لاستيعاب مظلة نووية أو دفاع مشترك فعّال. هذه الاعتبارات تفتح بابًا لتحليل الجدوى الواقعية مقابل الرمزية السياسية، وتطرح تساؤلات حول ما إذا كان الاتفاق بداية لتحول فعلي أم مجرد رسالة استراتيجية.
الاتفاق، إذًا، ليس مجرد وثيقة تعاون، بل هو إعلان عن مرحلة جديدة في العلاقات الإسلامية–الإسلامية، وعن رغبة مشتركة في بناء منظومة أمنية مستقلة، حتى وإن كانت محفوفة بالمخاطر. ما سيحدد مستقبل هذا التحالف ليس فقط بنوده السرية أو العلنية، بل قدرة الطرفين على إدارة التوازن بين الطموح والواقعية، وبين الردع والتصعيد، وبين الاستقلال والتحالفات التقليدية. وفي عالم يتغير بسرعة، قد يكون هذا الاتفاق بداية لشرق أوسط جديد، لا يُدار فقط من واشنطن أو تل ابيب، بل من الرياض وإسلام آباد أيضًا.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة