رواية جاك لندن نداء البرية تُروى عن حكاية عن كلب يُنتزع من بيت سيده وغريزته ومن راحته ليواجه قسوة الحياة ، وتُجسّد بشكل رمزي صراع الإنسان مع الظروف القاسية ، ومع السلطة ، ومع الطبيعة . باك هذا الحيوان ، الكائن المطيع والمدجّن ، يجد نفسه فجأة في عالم لا يرحم ، حيث البقاء للأقوى ، والغريزة هي السبيل الوحيد للنجاة . هذه القصة القديمة تبدو انعكاسًا مباشرًا لواقعنا المعاصر ، حيث تتشابك النزاعات والنفوذ والخداع تحت هيمنة نخبوية تفرض سيطرتها على المجتمعات .
فالهيمنة القائمة على النفوذ والسلطة تتجلى في الرواية حين يسيطر البشر على باك بالقوة والخداع . وهذا يعكس صورة مشابهة لما تفعله النخب الحاكمة اليوم ، حيث تتحكم بالشعوب عبر السياسة والاقتصاد ، غالبًا تحت غطاء القوانين أو الموروثات . وما نشهده من نزاعات مسلحة أو احتكار للموارد العالمية ليس إلا وجوهًا متعددة لهذا النفوذ .
وكما يخوض الكلب باك صراعًا شرسًا للبقاء وسط الكلاب الأخرى والطبيعة القاسية ، يعيش الإنسان المعاصر بدوره في دوامة النزاعات والحروب والأزمات الاقتصادية ، بل حتى داخل مجتمعاته حيث تتنافس الفئات على الموارد والحماية والنفوذ .
ويضاف إلى ذلك الخداع والتلاعب كأدوات للسيطرة . فكما يَخضع باك بفعل الخداع البشري ، تخضع المجتمعات الحديثة لمنظومات إعلامية وأيديولوجية توجه الرأي العام ، وتزرع الخوف أو الطاعة ، بينما تُبقي السياسات الاقتصادية غير العادلة الطبقات المهمشة تحت السيطرة .
غير أن الغريزة والقدرة على التكيف تظل أدوات مقاومة فعّالة . يكتشف باك قوته الداخلية ويتحوّل إلى كائن أكثر صلابة وذكاء ، فيقدر على النجاة . والإنسان كذلك ، يبتكر حلولًا محلية لمواجهة الفقر والأزمات ، ويجد في داخله طاقات جديدة للنجاح رغم قيود السلطة والنفوذ .
أما الحرية ، فهي الغاية النهائية . باك يترك عالم البشر ويصبح قائدًا للذئاب ، ليعيش حريته بعيدًا عن قوانين السيطرة . وفي واقعنا ، تتجلى الحرية في مقاومة القمع والفساد عبر الاحتجاجات الشعبية ، أو في الهجرة بحثًا عن بيئة أكثر عدلًا ، حيث يقرر الفرد والمجتمع مصيرهما بعيدًا عن الهيمنة .
فإن رواية نداء البرية لجاك لندن الاميركي تعتبر مرآة تعكس جوهر التجربة الإنسانية . إنها تحكي عن الغريزة ، وعن الحاجة للبقاء ، وعن الصراع مع النفوذ والخداع . والدرس الذي تتركه واضح ، هو ان البقاء والحرية لا يتحققان إلا عبر الوعي ، والقدرة على التكيف ، والمقاومة الذكية لكل سلطة تسعى لإخضاع الآخرين .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
مها الهادي طبيق
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست