شهدت العاصمة القطرية الدوحة خلال الأسابيع الماضية هجومًا إسرائيليًا استهدف مقرات سكنية لعدد من أعضاء المكتب السياسي لحركة المقاومة الفلسطينية (حماس). ورغم أن العملية أُعلن أنها موجهة ضد قيادات الحركة، فإن أبعادها السياسية والاستراتيجية تتجاوز بكثير البعد الأمني المباشر. فالمساس بالسيادة القطرية، وضرب الوساطة، والتواطؤ أو الصمت الأميركي، والتداعيات الإقليمية والدولية، كلها عناصر تجعل الحدث نقطة انعطاف مهمة في مسار الصراع العربي – الإسرائيلي.
لكن السؤال الأعمق هنا ليس فقط: لماذا فعلت إسرائيل ذلك؟ بل: إلى أين يقودها الإفراط والتمادي في استخدام القوة؟ وهل يحقق لها ذلك الأمن - بمفهومها - والسيطرة والهيمنة حقًا، أم أنها تزرع بذور انهيارها؟
أولاً: المساس بالسيادة القطرية
تنفيذ عملية عسكرية داخل حدود دولة مستقلة يمثل خرقًا واضحًا للقانون الدولي وتهديدا مباشرا لأمن المواطنيين القطريين والمقيمين على أرضها من كل الجنسيات. إن قطر ليست طرفًا عسكريًا في النزاع، بل لعبت دور الوسيط في محطات حساسة، آخرها استضافة مفاوضات غير مباشرة حول مقترح أميركي لوقف إطلاق النار. أن تُستهدف الدوحة يعني أن أي عاصمة في المنطقة قد تصبح ساحة مفتوحة لرسائل القوة الغاشمة الإسرائيلية، بما يقوّض أسس الأمن الجماعي الخليجي والعربي.
ثانيا: استهداف الوساطة بقدر استهداف (حماس)
لم يكن الهدف فقط ضرب قيادات (حماس) فذلك ليس بالجديد، بل إرسال رسالة إلى قطر: إن استضافة المفاوضات قد تجعلكم عرضة للنيران. هذا البعد السياسي خطير لأنه يضعف أي إمكانية مستقبلية لأي طرف إقليمي أن ينهض بدور الوسيط. الوساطة تحتاج إلى ضمانات أمنية، فإذا كانت هذه الضمانات تنهار أمام صواريخ إسرائيل، فإن مسارات التسوية تصبح عبثية. النتيجة: تكريس منطق الحرب بدلا من البحث عن سلام.
ثالثًا: دور الولايات المتحدة
من الصعب تصور عملية بهذا الحجم في منطقة الخليج، حيث تنتشر قواعد أميركية كبرى، من دون علم أو رصد أميركي. قد لا تكون واشنطن منحت الضوء الأخضر المباشر، لكن صمتها اللاحق يضع علامات استفهام حول التزامها بحماية حلفائها الخليجيين. هذا الصمت يزيد من انعدام الثقة بمسارات التفاوض التي ترعاها الولايات المتحدة، ويطرح سؤالا أعمق: هل واشنطن راغبة أصلا في كبح جماح إسرائيل، أم أنها تتركها تستخدم القوة المفرطة كأداة تفاوضية؟
رابعًا: التداعيات الإقليمية والدولية
• قطر قد تجد نفسها مضطرة أمام خيارات أخرى قد تعطل مسار ايجاد ارضية مشتركة بين كل الأطراف وصولا لارساء السلام في المنطقة.
• العملية التفاوضية: ضعف الثقة بأي مسار دبلوماسي برعاية أميركية إذا كان يمكن لإسرائيل أن تنسفه بضربة عسكرية.
• النظام الدولي: الصمت الأممي على استهداف عاصمة خليجية مستقلة يعكس ازدواجية المعايير ويضعف مصداقية المؤسسات الدولية.
خامسًا: البعد الفلسفي — القوة ليست شرعية
من زاوية فلسفية، يبرز ما كتبته هانّا أرندت (1906-1975) - وهي منظّرة سياسية وباحثة ألمانية أمريكية، اشتهرت بكتاباتها حول الشمولية، والثورة، والشر - حين فرّقت بين القوة (Power) والعنف (Violence). القوة تنبع من الشرعية والقبول الجمعي، أما العنف فيُستخدم عندما تفشل القوة. إسرائيل، بإفراطها في العنف، تحاول تعويض غياب الشرعية. لكن العنف، مهما بلغ، لا يُنتج قبولا ولا يُؤسس لهيمنة مستقرة. ما يجري في الدوحة مثال صارخ: استخدام العنف ضد دولة لم تكن طرفًا مباشرًا في الحرب يعكس فراغًا في الشرعية لا يُملأ بالصواريخ.
سادسا: البعد السلوكي — القمع يولّد المقاومة
علم النفس الاجتماعي يثبت أن الإكراه المفرط يولّد رد فعل معاكس، فيما يعرف بـ”التفاعلية النفسية”. الإنسان حين يُسلب حريته أو يُهان، يسعى جاهدا لاستعادتها، حتى لو كلفه ذلك حياته. إسرائيل اعتمدت منذ تأسيسها على “عقيدة الردع”، لكنها بدلًا من القضاء على المقاومة، صنعت مقاومات جديدة أكثر تعقيدا وصلابة. من غزة إلى الضفة، ومن لبنان إلى العالم العربي والإسلامي، لم تُخضع القوةُ الشعوبَ بل صنعت أسطورة “المقاومة التي لا تُقهر”.
سابعا: البعد التاريخي.. حين يرتد السيف على حامله
التاريخ يعج بأمثلة إمبراطوريات اعتمدت على الإفراط في القوة وظنت أنها ضمنت الهيمنة:
1. روما: حكمت بالسيف والجلاد، فواجهت تمردات متتالية أنهكت جيوشها حتى انهارت من الداخل.
2. نابليون: غزا نصف أوروبا بقوة مدمرة، لكنه سقط في روسيا وتهاوت إمبراطوريته سريعًا.
3. هتلر: اجتاح أوروبا في عامين، لكنه انتهى منتحرًا في قبو مهزومًا ومعزولًا.
4. الولايات المتحدة في فيتنام والعراق: التكنولوجيا المتفوقة لم تمنع الهزيمة الاستراتيجية وفقدان النفوذ.
الدرس ثابت: كل قوة مفرطة — بلا حكمة ولا عدل — تنقلب على صاحبها.
ثامنا: لماذا تفشل إستراتيجية القوة المفرطة؟
1. استنزاف الموارد: الحروب الطويلة تُنهك الاقتصاد والمجتمع.
2. فقدان الشرعية الأخلاقية: يتحول صاحب القوة إلى جلاد في نظر العالم.
3. توحيد الأعداء: العنف يوحّد الخصوم المتنازعين في مواجهة عدو مشترك.
4. خلق الأسطورة المضادة: المقهور يصبح بطلًا، والغازي يتحول إلى رمز للشر.
هذه الآليات تُفسر لماذا تتزايد عزلة إسرائيل رغم قوتها، ولماذا يظل الشعب الفلسطيني مصدرًا لمقاومة لا تنطفئ.
ورطة إسرائيل.. منطق القوة المفرطة
الهجوم الإسرائيلي الغادر على الدوحة لم يكن مجرد عملية أمنية ضد قيادات حماس، بل حدث استراتيجي يكشف منطق الإفراط في القوة الذي تعتمده إسرائيل. هذا المنطق، فلسفيًا وسلوكيًا وتاريخيًا، لا يُنتج هيمنة بل يُسرّع مسار الانكشاف: يضعف الشرعية، يخلق مقاومة، يستنزف الموارد، ويزرع بذور سقوط الشوكة.
إذا كان درس التاريخ واضحًا، فإن ما يجري اليوم يعيد تأكيده: القوة المفرطة لا تبني أمنًا ولا هيمنة، بل تصنع مقاومة وأساطير، وتفتح الطريق لانهيار صاحبها.
ولعل السؤال الحقيقي لم يعد: هل ستدفع إسرائيل ثمن إفراطها في القوة؟ بل: متى وكيف سيأتي هذا الثمن؟ عسى أن يكون قريبا.
—-
تقييم المقال:
"الهجوم الإسرائيلي في الدوحة: وهم الهيمنة وحتمية الارتداد"
المقال للدكتور ياسر محجوب الحسين هو مقال رأي تحليلي، يقدم قراءة نقدية للهجوم الإسرائيلي المزعوم في الدوحة. يتميز المقال بأسلوبه الواضح، ومنهجيته المنظمة، وعمقه الفكري الذي يتجاوز التحليل السياسي السطحي إلى أبعاد فلسفية وتاريخية وسلوكية.
نقاط قوة المقال
• هيكلة قوية ومنطقية: المقال مبني بشكل محكم، حيث يبدأ بتقديم الحدث (الهجوم)، ثم يطرح سؤالاً أعمق يتجاوز الحدث نفسه ("إلى أين يقودها الإفراط في استخدام القوة؟"). بعد ذلك، ينتقل إلى تحليل سبعة أبعاد مختلفة للحدث، من السياسي إلى الفلسفي، وصولاً إلى البعد التاريخي. هذه الهيكلة تجعل القارئ يتابع الفكرة بسلاسة.
• عمق التحليل: لا يكتفي الكاتب بسرد التداعيات السياسية المباشرة، بل يتوسع ليشمل:
• البعد الإستراتيجي: ضرب الوساطة الدولية وإضعاف مسارات التفاوض.
• البعد الفلسفي: استعانة الكاتب بأفكار الفيلسوفة "هانا أرندت" للتفرقة بين القوة والعنف، وهو ما يعطي المقال عمقاً فكرياً مميزاً.
• البعد السلوكي: استخدام مفاهيم من علم النفس الاجتماعي مثل "التفاعلية النفسية" لتفسير توليد القمع للمقاومة.
• البعد التاريخي: استعراض أمثلة تاريخية من روما ونابليون وهتلر والولايات المتحدة لإثبات أن الإفراط في القوة يؤدي حتماً إلى الانهيار.
• لغة واضحة ومباشرة: يستخدم الكاتب لغة سلسة ومباشرة، مع استخدام مصطلحات دقيقة مثل "وهم الهيمنة" و"حتمية الارتداد"، مما يعزز فكرة المقال الرئيسية. كما أن العناوين الفرعية الجذابة تساعد على جذب انتباه القارئ.
• الخلاصة القوية: يختتم المقال بتلخيص قوي ومكثف لأهم أفكاره، ويترك القارئ مع سؤال مفتوح يدعوه للتفكير في مستقبل الصراع، مما يعطي نهاية مؤثرة ومفكرة.
ملاحظات على المقال
• الاعتماد على مصدر واحد للحدث: بما أن المقال يعتمد على خبر "هجوم إسرائيلي في الدوحة"، فمن الأفضل الإشارة إلى مصدر الخبر أو التأكد من انتشاره عبر وسائل إعلامية متعددة، لضمان أن القارئ على علم بأساس المعلومة التي يبنى عليها المقال بأكمله.
• افتراض التواطؤ الأمريكي: المقال يطرح فكرة "صمت أو تواطؤ أمريكي" كأمر شبه مؤكد، وهو تحليل منطقي بالنظر إلى وجود القواعد الأمريكية، لكنه قد يكون مجرد استنتاج. لذا، يمكن صياغته بشكل أكثر حذراً، كطرح سؤال أو احتمالية، بدلاً من تأكيده بشكل قاطع.
تقييم عام
بشكل عام، المقال قوي ومقنع، فهو لا يكتفي بتحليل الحدث، بل يربطه بنظريات فلسفية وعلمية وتاريخية، مما يجعله عملاً فكرياً ذا قيمة. لقد نجح الكاتب في تقديم رؤية تتجاوز اللحظة السياسية الراهنة لتضع الحدث في سياقه التاريخي الأوسع، وتؤكد على أن القوة المفرطة ليست حلاً مستداماً، بل هي بذرة للانهيار.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة