في حي ود نوباوي بأمدرمان، عاش موسى ناصر عبد الكريم المشهور بـ”ود نفاش” (1917م)، وهو من أشهر ظرفاء السودان. لم يكن ود نفاش مجرد مهرج يضحك الناس، بل كان فيلسوفاً اجتماعياً يستخدم الطرافة لنقد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في عصره. من خلال نوادره الشهيرة، قدم دروساً عميقة في الاقتصاد لا تزال صالحة حتى اليوم.
خلال الحرب العالمية الثانية، تبرع السيد عبد الرحمن المهدي بمبلغ خمسمائة جنيه للصليب الأحمر، وهو مبلغ ضخم جداً في ذلك الوقت. عندما سمع ود نفاش بهذا الخبر، ذهب إلى منزل السيد عبد الرحمن المهدي وخلع جلبابه ووقف عاري الصدر باسطاً ذراعيه على شكل صليب. وعندما خرج السيد عبد الرحمن من منزله، وجد ود نفاش واقفاً هكذا، فسأله عم باب الله (سكرتير الإمام) عن سبب وقوفه بهذا الشكل. فأجاب ود نفاش: “سمعت قالوا سيدي اتبرع بخمسمية جنيه للصليب الأحمر، أها الصليب الأسود ده عاوز ليه خمسة جنيه بس!” هذه الطرفة تحمل نقداً عميقاً لمفهوم العدالة التوزيعية في الاقتصاد. ود نفاش يسلط الضوء على التناقض بين الإنفاق على المساعدات الخارجية والإهمال النسبي للحاجات المحلية. من الناحية الاقتصادية، يطرح سؤالاً مهماً حول أولويات الإنفاق: هل من المنطق اقتصادياً أن ننفق مبالغ ضخمة على قضايا دولية بينما هناك حاجات محلية ملحة؟ كما يشير إلى مفهوم تكلفة الفرصة البديلة - فالخمسمائة جنيه التي ذهبت للصليب الأحمر كان يمكن أن تحل مشاكل اقتصادية محلية كثيرة.
في نادرة أخرى، اتفق أصحاب مصنع الشيري مع ود نفاش على وضع صورته على قزازة الشيري وتسميته “شيري أبو النفش” مقابل مبلغ من المال. وقع ود نفاش على العقد، لكن أحد أقربائه أخبر السيد عبد الرحمن المهدي بالأمر. استدعى السيد عبد الرحمن ود نفاش وقال له: “يا موسى بلغني إنك عايز تحط صورتك في قزازة الخمرة!” فأجاب ود نفاش: “لا حول ولا قوة يا سيدي! الخواجات الكفار ما قالوا لي قزازة خمرة، أنا فاهم حاجة تانية… أنت حطيت صورتك في قزازة الريحة، والسيد علي حط صورته برضو في قزازة الريحة، بس موسى ده حيطة قصيرة!” فضحك السيد عبد الرحمن وأعطاه نفس المبلغ الذي أعطاه له الخواجة مقابل عدم وضع الصورة. لكن ود نفاش لم يرد المال للخواجة، وادعى له أن السيد عبد الرحمن منعه. هذه الطرفة تجسد مفهوم تعظيم الربح واستغلال المعلومات غير المتماثلة في الاقتصاد. ود نفاش استطاع أن يبيع نفس “الأصل” (صورته) لطرفين مختلفين، محققاً ربحاً مضاعفاً. هذا ما يُعرف في الاقتصاد بالتحكيم - الاستفادة من فروق الأسعار في أسواق مختلفة. كما يوضح مفهوم القيمة المضافة للعلامة التجارية الشخصية، حيث أن شهرة ود نفاش كانت لها قيمة اقتصادية حقيقية يمكن تحويلها إلى مال.
في إحدى السنوات، عانت أمدرمان من جفاف شديد وتأخر الخريف. أُقيمت صلاة استسقاء في ميادين الليق بقيادة الشيخ عوض عمر، الذي دعا بحرارة حتى البكاء. في نفس الليلة هطلت أمطار غزيرة جداً واستمرت لساعات، مما أضر ببيوت الجالوص (الصفيح). جاء أهل أمبدة غاضبين بعكاكيزهم إلى منزل الشيخ عوض عمر مهددين ومحذرين من تكرار مثل هذه الصلاة. بعد أيام، لقي ود نفاش الشيخ عوض عمر وقال له: “يا مولانا نحن زارعين فاصوليا، تدعو حتى البكاء! ما كان تخليها رشة خفيفة بدل ما طمبجتها كدا؟” هذه الطرفة تتناول مفهوم إدارة المخاطر في الاقتصاد الزراعي. ود نفاش يشير إلى أن الإفراط في أي شيء، حتى لو كان مطلوباً، يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية. في الاقتصاد الزراعي، هناك توازن دقيق مطلوب: القليل من المطر يعني جفاف وفشل المحاصيل، والكثير منه يعني فيضانات وتدمير المحاصيل والبنية التحتية. هذا يعكس مبدأ المنفعة الحدية المتناقصة - حيث أن الوحدة الإضافية من أي مورد (هنا المطر) قد تصبح ضارة بدلاً من مفيدة بعد نقطة معينة.
أهدى الإمام عبد الرحمن المهدي لموسى ود نفاش وصديقه الشاعر إبراهيم العبادي لورياً (شاحنة) وأجرهما للدائرة بمبلغ خمسة جنيهات في الشهر مساعدة لهما. اشتغل اللوري شهراً ثم توقف عن العمل، لكن السيد عبد الرحمن استمر في صرف الإيجار رغم توقفه لأنه كان يحبهما. عندما تخرج السيد الصديق المهدي من الجامعة واستلم إدارة دائرة المهدي، حصر اللواري العاملة والمتوقفة وأوقف الصرف للواري المتوقفة، ومن ضمنها لوري ود نفاش والعبادي. في بداية الشهر الجديد، توجه ود نفاش والعبادي لدائرة المهدي ووقفا أمام الصراف الذي أخبرهما بتوقف صرف أجرة اللوري. خرجا من فورهما ودخلا السرايا ووجدا السيد عبد الرحمن مع ضيف خواجة، انتظرا حتى يفرغ. بعد برهة خرج الإمام مع الخواجة ورافقه حتى السلم ثم رجع وسلم عليهما وأخبرهما أنه سعيد جداً لأن هذا الخواجة أسلم على يده الآن. رد ود نفاش: “وما الفائدة؟ أنت دخلت واحد وولدك مرق اتنين!” فضحك السيد عبد الرحمن وأوصى لهما بالمبلغ. هذه الطرفة تعكس مفهوم الكفاءة الاقتصادية والعائد على الاستثمار. ود نفاش يشير بذكاء إلى أن الأب (عبد الرحمن) “استثمر” في إدخال شخص واحد للإسلام، بينما الابن (الصديق) “أخرج” اثنين من نظام الدعم الاقتصادي. من منظور اقتصادي، هذا يطرح سؤالاً حول التوازن بين الاستثمار الروحي والاستثمار المادي، وكيف أن القرارات الإدارية الجديدة قد تلغي المكاسب السابقة. كما يعكس مفهوم التغيير في السياسات الاقتصادية عند تغيير الإدارة، وكيف أن الجيل الجديد قد يتبنى مناهج أكثر صرامة في إدارة الموارد.
ود نفاش، من خلال طرفه البسيطة، قدم دروساً عميقة في الاقتصاد السلوكي والاجتماعي. علمنا أن الاقتصاد ليس مجرد أرقام وإحصائيات، بل هو علم إنساني يتعامل مع سلوك البشر وحاجاتهم ومشاعرهم. في عالم اليوم، حيث تهيمن النماذج الاقتصادية المعقدة، تذكرنا حكمة ود نفاش بأن أفضل الحلول الاقتصادية هي التي تأخذ في الاعتبار الطبيعة البشرية والعدالة الاجتماعية والحكمة الشعبية. كان ود نفاش اقتصادياً بالفطرة، يفهم أن المال وسيلة وليس غاية، وأن الثروة الحقيقية تكمن في القدرة على إسعاد الآخرين والتأثير الإيجابي في المجتمع.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة