يمثل مشروع القرار الذي تقدمت به لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأمريكي، والداعي إلى نزع شرعية تمثيل السودان في المنظمات الدولية إلى حين تشكيل حكومة مدنية أو منتخبة، تطورًا نوعيًا في مسار التعاطي الأمريكي مع الأزمة السودانية، كامتداد مباشر لما ورد في بيان الرباعية الدولية، الذي دعا إلى وقف القتال والعودة إلى مسار سياسي يقود إلى حكم مدني. بهذا المعنى، فإن القرار لا يُقرأ كتصعيد منفرد، بل كخطوة تنفيذية تُترجم مضامين البيان إلى إجراءات عملية، وتُظهر جدية الولايات المتحدة في تجاوز مرحلة البيانات إلى مرحلة الفعل المؤسسي.
هذا التحرك يعكس قناعة متزايدة داخل دوائر صنع القرار في واشنطن بأن الأطراف السودانية العسكرية، لم تُبدِ حتى الآن ما يكفي من الجدية للانخراط في رؤية الرباعية، وأن حالة المراوحة السياسية، والتصعيد العسكري، والتناقض بين الخطاب والممارسة، كلها مؤشرات على غياب الإرادة الحقيقية للانتقال نحو الحكم الديمقراطي. ومن هنا، جاء القرار ليضع سقفًا جديدًا للشرعية، لا يُمنح بمجرد السيطرة على الأرض أو التمثيل الرسمي، بل يُربط صراحةً بوجود حكومة مدنية أو منتخبة، وفقًا لمعايير واضحة لا تحتمل التأويل.
ولم يكن هذا القرار معزولًا عن سياق دولي وإقليمي متكامل، بل جاء ضمن سلسلة من الإجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بعد صدور بيان الرباعية الأخير. فقد فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات مباشرة على وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم، إلى جانب كتيبة البراء بن مالك، المرتبطة بشبكات الإسلاميين، في خطوة تعكس استهدافًا واضحًا للبنية المالية والسياسية التي يُعتقد أنها تعرقل مسار الانتقال. كما صوّت مجلس الأمن الدولي بالإجماع على تجديد العقوبات المفروضة على السودان حتى سبتمبر 2026، مع تمديد ولاية مجموعة الخبراء حتى أكتوبر من العام نفسه، وهو ما يُعد مؤشرًا على توافق دولي نادر بشأن خطورة الوضع في السودان وضرورة مراقبته عن كثب.
الدعوة إلى تفعيل المادة 29 من النظام الداخلي للجمعية العامة للأمم المتحدة، وهي مادة نادرًا ما يُلجأ إليها، تُعد مؤشرًا على أن واشنطن تسعى إلى تجريد السلطة القائمة من الغطاء الدبلوماسي الذي يتيح لها التحرك في المحافل الدولية، وتحويلها إلى كيان غير معترف به رسميًا، وهو ما يحمل تبعات قانونية وسياسية بالغة التأثير. فمثل هذا الإجراء، إذا ما تم تبنيه دوليًا، قد يؤدي إلى تعليق مشاركة السودان في المؤتمرات الدولية، وحرمانه من الحصول على مساعدات أو قروض من المؤسسات المالية العالمية، التي تشترط وجود حكومة شرعية.
كما أن القرار يُعيد تعريف مفهوم الشرعية في السياق الدولي، بحيث لا تُمنح لمجرد السيطرة على الأرض أو امتلاك القوة، بل تُربط بوجود مؤسسات مدنية منتخبة. هذا التحول يُضعف منطق (الشرعية الواقعية) الذي تتبناه السلطات العسكرية، ويُعزز منطق (الشرعية القانونية)، في تحول بالغ الأهمية في فلسفة الحكم والتمثيل الدولي، وقد تكون له انعكاسات تتجاوز الحالة السودانية إلى نماذج أخرى مشابهة. ويأتي هذا التوجه مدفوعًا أيضًا بالبعد الإنساني للأزمة، في ظل تقارير تشير إلى نزوح أكثر من 7 ملايين شخص، بينهم 3 ملايين طفل، وارتكاب جرائم حرب واغتصاب وتطهير عرقي، ما دفع الكونغرس إلى تجاوز الحسابات الجيوسياسية، والانتقال نحو إجراءات ملموسة تربط الاعتراف الدولي بشرعية مدنية لا عسكرية.
من جهة أخرى، يمنح القرار الأمريكي القوى المدنية دفعة معنوية ويُعيد الاعتراف الدولي بها كطرف شرعي في أي تسوية مستقبلية، ما قد يُعيد ترتيب موازين القوى داخليًا ويمنحها أدوات ضغط جديدة. غير أن هذا الاعتراف لا يُترجم تلقائيًا إلى نفوذ فعلي، إذ تواجه القوى المدنية تحديات بنيوية، أبرزها الانقسام السياسي، وضعف التنظيم. وفي ظل هذه المعطيات، يصبح الاعتراف الدولي سيفًا ذا حدين ، اذ يمنح الشرعية، لكنه يُحمّل القوى المدنية مسؤولية تقديم بديل سياسي قابل للتنفيذ، لا مجرد الاعتراض أو الانتظار. فالمجتمع الدولي، وعلى رأسه واشنطن، بات يربط شرعية الحكم بوجود مسار مدني واضح، لا بشعارات أو بيانات غير مصحوبة بخطوات عملية.
في المقابل من المرجح أن تتعامل السلطة العسكرية مع القرار الأمريكي بوصفه تدخلًا خارجيًا، وتوظفه في خطابها السياسي لتأليب الرأي العام ضد القوى المدنية والدول الغربية. لكن هذا الرد، مهما بلغت حدته، لا يغيّر من حقيقة أن الشرعية الدولية باتت مشروطة، وأن تجاهل هذا التحول قد يُفضي إلى عزلة دبلوماسية خانقة. كما أن السلطة العسكرية قد تلجأ إلى تسريع خطوات ميدانية لإعادة تعريف المشهد، عبر تصعيد عسكري يفرض واقعًا جديدًا على الأرض.
في مقابل التحرك الأمريكي، يظل موقف القوى الدولية غير المنخرطة في الرباعية، مثل روسيا والصين وإيران، غامضًا أو غير حاسم. هذه الدول قد ترى في القرار فرصة لتعزيز نفوذها في السودان، عبر تقديم دعم رمزي أو سياسي للسلطة العسكرية، خاصة في ظل التوترات الجيوسياسية العالمية. لكن هذا الدعم، مهما بلغ، لا يملك القدرة على كسر الإجماع الدولي المتشكل حول ضرورة العودة إلى الحكم المدني، ولا يوفر ضمانات كافية للاستقرار الداخلي، ما يجعل الرهان عليه محفوفًا بالمخاطر.
لا يقتصر مشروع القرار الأمريكي على نزع الشرعية الدبلوماسية فحسب، بل يمثل تحولًا مؤسسيًا في طريقة تعامل واشنطن مع الأزمة السودانية. فبحسب ما ورد في تقارير دولية، يشمل المشروع فرض عقوبات على قادة الطرفين المتحاربين، وحظر بيع الأسلحة للدول التي تساهم في تأجيج الصراع، إضافة إلى تعيين مبعوث رئاسي خاص للسودان لمدة خمس سنوات لتنسيق السياسة الأمريكية والجهود الدبلوماسية. هذا يعكس انتقالًا من مرحلة الضغط السياسي إلى بناء آلية دبلوماسية مستدامة، تُدار من داخل المؤسسات الأمريكية، وتُعبّر عن إجماع حزبي نادر بين الديمقراطيين والجمهوريين، في خطوة تعكس إدراكًا متزايدًا لخطورة الوضع وتعقيداته.
إن مشروع القرار الأمريكي لا يُقرأ فقط كإجراء تقني داخل الكونغرس، بل كإعلان عن بداية مرحلة جديدة في التعامل مع الأزمة السودانية، مرحلة تتجاوز البيانات الدبلوماسية إلى إجراءات ملموسة تهدف إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي من الخارج، في ظل عجز الداخل عن إنتاج تسوية قابلة للحياة. وفي هذا السياق، يصبح السؤال الأهم ليس ما إذا كانت واشنطن ستنفذ القرار، بل كيف ستتعامل الأطراف السودانية مع واقع جديد تُعاد فيه صياغة الشرعية، لا من خلال السيطرة على الأرض، بل عبر الاعتراف الدولي الذي بات مشروطًا بالديمقراطية، لا بالقوة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة