"" بقلم: د.محمد آدم يوسف (ALQAXDANI) مقدمة فلسفية: جدلية الأصل والصورة في النظرية السياسية من منظور الفلسفة السياسية، تُثير التجربة السودانية المعاصرة إشكاليات عميقة حول طبيعة التحولات السياسية وآليات إعادة إنتاج السلطة. فما نشهده اليوم في السودان ليس مجرد صراع سياسي تقليدي، بل هو تجسيد حي لما يمكن تسميته بـ"أزمة المحاكاة السياسية" -- حيث تحاول القوى الناشئة تقليد البنى والآليات السلطوية للنظم السابقة دون امتلاك مضمونها الفلسفي أو شرعيتها التاريخية. في هذا السياق، يُشكل محمد حمدان دقلو "حميدتي" نموذجاً فريداً لما يُسمى في الأدبيات السياسية بـ"القائد التقليدي الحديث" -- أي ذلك النوع من القيادات التي تحاول الجمع بين الشرعية التقليدية (القبلية/العسكرية) والحداثة السياسية (الخطاب الديمقراطي/التحديثي) لكن دون امتلاك أسسهما الفلسفية الحقيقية. 🔸في تعريف "الكيزان": من المصطلح القدحي إلى الدلالة الحضارية قبل الخوض في الأسس الفلسفية للمشروع الحضاري، لا بد من تفكيك مصطلح "الكيزان" نفسه، الذي يستخدمه الخصوم السياسيون كأداة للوصم والتحقير. في قصدهم، يُشير المصطلح إلى فئة منغلقة ومستأثرة بالسلطة والمنافع، كما لو كانوا يشربون من "كوز" واحد. لكن هذا التوصيف السطحي، الذي ينم عن عجز معرفي لدى مطلِقيه، يتجاهل العمق الفلسفي والأنطولوجي للمفهوم من وجهة نظر الحركة الإسلامية. فـ "الكوز" في جوهره ليس رمزاً للعصبية الضيقة، بل هو "وعاء الفكرة الأصيلة" و"منبع المشروع الصافي". إنه يُمثل الحالة التنظيمية والفكرية التي تضمن نقاء المرجعية ووحدة الوجهة وتماسك الرؤية الحضارية. فبينما يرتوي الآخرون من مشارب فكرية متناقضة ومستوردة - من الليبرالية المشوهة إلى الماركسية المنهارة -- ينهل أبناء المشروع الإسلامي من منبع واحد صافٍ: هو الإسلام كمرجعية شاملة للحياة والدولة. 🔸مقارنة مفاهيمية: "الكيزان" مقابل "الدم الجديد" الصومالي في هذا السياق، يُثير الواقع الصومالي المعاصر مقارنة مفاهيمية مهمة مع التجربة السودانية. فما يُعرف في الصومال بمصطلح "الدم الجديد" يحمل دلالات مضادة تماماً لمفهوم "الكيزان" من الناحية المعرفية والفلسفية. يرمز "الدم الجديد" الصومالي إلى حركة شابة متعلمة تسعى لتجاوز إرث الانقسامات القبلية والحروب، وبناء مستقبل قائم على الكفاءة والوحدة الوطنية. إنها حركة تمثل التجديد السطحي في مختلف القطاعات دون امتلاك مشروع حضاري متكامل. لكن الأخطر هو التشويه المفاهيمي الذي يُصاحب هذا المصطلح، حيث يُفسَّر خطأً لدى البعض كدعوة لـ"إراقة الدماء" لتمكين نخبة جديدة بالقوة. هذا التفسير يُجسد خطورة "المصطلحات المجوفة" التي تفتقر للأساس المعرفي الصلب، فتنزلق نحو العنف كبديل عن العمق الفكري. وهنا تكمن الفروق الجوهرية: "الكيزان" (النموذج السوداني الأصيل): • مشروع حضاري متكامل يستند على مرجعية معرفية راسخة • وحدة فكرية وتنظيمية تنبع من عمق أيديولوجي • تغيير شامل للبنى والمفاهيم وليس مجرد تبديل أشخاص "الدم الجديد" (النموذج الصومالي): • تجديد شكلي يفتقر للمشروع الحضاري الشامل • تركيز على التغيير الجيلي دون تغيير معرفي جذري بذاتية نسبية • قابلية للتحريف نحو العنف بسبب غياب الأسس الفلسفية هذه المقارنة تُظهر أهمية امتلاك المشروع السياسي لأسس معرفية وفلسفية راسخة، وإلا فإنه سيبقى عُرضة للتشويه والانحراف. لذلك، فإن مصطلح "الكيزان"، بعد تجريده من الشوائب القدحية، يعبر عن السمة الجوهرية للمشروع: الوحدة المعرفية والتماسك التنظيمي. إنه ليس تهمة، بل هو توصيف دقيق لقوة الحركة التي أرعبت خصومها؛ قوةٌ لا تنبع من السلاح أو المال، بل من امتلاك مشروع حضاري متكامل ومن إيمان عميق بوحدة المصدر والغاية. بهذا المعنى، يصبح الانتماء لـ"الكوز" شرفاً، لأنه يعني الانتماء للأصالة الفكرية في مواجهة التقليد المشوه، وللوضوح المنهجي في مواجهة التخبط الأيديولوجي. 🔸الأصل: الكيزان والنظرية السياسية الإسلامية الشاملة الأسس الفلسفية للمشروع الحضاري الإسلامي من منظور فلسفة الدولة، قدمت الحركة الإسلامية السودانية نموذجاً متقدماً لما يُسمى بـ"الدولة الأيديولوجية الشاملة" (Total Ideological State). هذا النموذج يقوم على أسس فلسفية راسخة: أولاً: وحدة المعرفة والسلطة (Epistemological-Political Unity) الحركة الإسلامية لم تكن مجرد حزب سياسي، بل مشروعاً معرفياً شاملاً يسعى لإعادة تشكيل العلاقة بين المعرفة والسلطة على أساس المرجعية الإسلامية. هذا ما يُفسر اهتمامها بالتعليم والثقافة والإعلام كأدوات لبناء الهيمنة الفكرية (Hegemony) بالمعنى الغرامشي. ثانياً: الأممية الحضارية مقابل القومية الضيقة تجاوزت الرؤية الإسلامية السودانية حدود الدولة الوستفالية التقليدية نحو مفهوم "الأمة الحضارية" (Civilizational Nation) - وهو مفهوم يتجاوز الحدود الجغرافية والعرقية ليؤسس لشرعية عابرة للحدود تقوم على الهوية الحضارية المشتركة. في هذا السياق، تُشكل الأممية الإسلامية إحدى الطرق الرئيسية لتحقيق تعدد الأقطاب في النظام العالمي (Multipolar World Order)، حيث تُقدم بديلاً حضارياً للهيمنة الأحادية الغربية. فبدلاً من النموذج الوستفالي القائم على الدول القومية المنعزلة، تطرح الأممية الإسلامية نموذج "الكتلة الحضارية" التي تُشكل قطباً مستقلاً في النظام الدولي، قادراً على موازنة القوى العالمية وتقديم نموذج بديل للحكم والتنمية والعلاقات الدولية. ثالثاً: التنمية الحضارية المتكاملة تبنت الحركة ما يُسمى في النظرية السياسية بـ"التنمية الشمولية" (Holistic Development) التي تدمج البُعد المادي والروحي في نسق واحد، متجاوزة ثنائية الحداثة الغربية بين العلماني والديني. 🔸فلسفة التمكين كاستراتيجية بناء الهيمنة الحضارية ما يُنتقد اليوم باسم "التمكين" يُمثل في حقيقته تطبيقاً عملياً لنظرية أنطونيو غرامشي حول "الهيمنة الثقافية" (Cultural Hegemony). فالحركة الإسلامية فهمت أن السيطرة على أجهزة الدولة وحدها غير كافية لإنجاز التحول الحضاري المنشود، بل تتطلب بناء هيمنة فكرية وثقافية شاملة عبر: • التربية والتعليم: لإنتاج جيل يحمل الرؤية الحضارية الجديدة • الإعلام والثقافة: لتشكيل الوعي الجماعي • الاقتصاد والتنمية: لإثبات فعالية النموذج عملياً 🔸الشرعية التاريخية والحضارية تستمد الحركة الإسلامية شرعيتها من مصادر متعددة: الشرعية المعرفية: كونها تحمل مشروعاً معرفياً متكاملاً يقدم إجابات شاملة للأسئلة الوجودية والحضارية الشرعية التاريخية: باعتبارها امتداداً لتراث إسلامي عريق في السودان الشرعية الأممية: من خلال ارتباطها بمشروع حضاري عالمي يتجاوز الحدود المحلية 🔸حميدتي والإشكالية المزدوجة: "الكيزان المضاد" و"ما بعد الكيزان" التموضع الفلسفي المتناقض من منظور الفلسفة السياسية، يُواجه حميدتي ما يُسمى بـ"أزمة التموضع الأيديولوجي" (Ideological Positioning Crisis). فهو يحاول الجمع بين موقفين متناقضين فلسفياً: أولاً: "الكيزان المضاد" (Anti-Kezan) في هذا التموضع، يُقدم حميدتي نفسه كممثل للقوى المناهضة للمشروع الإسلامي، مستخدماً خطاب "التحرر من الهيمنة الأيديولوجية". لكن هذا التموضع يُعاني من إشكالية فلسفية جوهرية: فهو يفتقر لمشروع معرفي بديل، مما يجعله مجرد "نفي" للآخر دون امتلاك "إثبات" ذاتي. ثانياً: "ما بعد الكيزان" (Post-Kezan) هنا يحاول حميدتي تقديم نفسه كممثل لمرحلة جديدة تتجاوز صراع "الكيزان/ضد الكيزان" نحو نموذج "ثالث". لكن هذا التموضع يقع في فخ ما يُسمى بـ"وهم ما بعد الأيديولوجيا" (Post-Ideological Illusion)، حيث يدعي تجاوز الأيديولوجيا بينما هو في الواقع يؤسس لأيديولوجيا جديدة. 🔸النسخة المشوهة: تحليل فلسفي للمحاكاة الناقصة 1. محاكاة البنية دون الجوهر (Structural Mimicry without Essence) يُحاول حميدتي تقليد البنى السلطوية للحركة الإسلامية دون فهم فلسفتها: الأصل (الكيزان الحقيقيون): • التمكين المؤسسي مدفوع برؤية حضارية شاملة • بناء الهيمنة الثقافية كأساس للشرعية السياسية • المشروع الأممي كتجاوز للحدود الوستفالية النسخة المشوهة (حميدتي): • تمكين فئوي قائم على المصالح الضيقة • القوة العسكرية كبديل للهيمنة الثقافية • النزعة الانفصالية كنقيض للمشروع الأممي 2. أزمة الشرعية الفلسفية (Philosophical Legitimacy Crisis) من منظور نظرية الشرعية السياسية، يُعاني مشروع حميدتي من غياب الأسس الفلسفية للشرعية: غياب المرجعية المعرفية: لا يملك مشروعاً معرفياً متماسكاً يُبرر وجوده السياسي غياب الشرعية التاريخية: يفتقر لجذور تاريخية عميقة في التراث السوداني غياب المشروع الحضاري: لا يطرح بديلاً حضارياً للنموذج الذي يحاربه 3. التناقض الوجودي: المحارب الذي يُشبه عدوه هنا نصل إلى جوهر الإشكالية الفلسفية في مشروع حميدتي. فهو يُجسد ما يُسمى في الأدب الفلسفي بـ"مفارقة المحارب المرآة" (The Mirror Fighter Paradox) - حيث يحارب عدوه بنفس أسلحته ووسائله، فيصبح في النهاية نسخة مشوهة منه. التمكين الاقتصادي: يُسيطر على مناجم الذهب والموارد الطبيعية تماماً كما سيطرت الحركة الإسلامية على المؤسسات الاقتصادية التمكين العسكري: يبني جيشاً موازياً كما بنت الحركة الإسلامية مليشياتها وقوات الدفاع الشعبي الخطاب الشمولي: يدعي تمثيل "السودان الجديد" كما ادعت في منظوره الحركة الإسلامية تمثيل "المشروع الحضاري" 🔸الفلسفة السياسية لـ"الكيزان المضاد" النقد الفلسفي للمفهوم مفهوم "الكيزان المضاد" يحمل في طياته تناقضاً فلسفياً جوهرياً. فهو يُعرّف نفسه سلبياً (بما هو ضد) وليس إيجابياً (بما هو له). هذا ما يُسمى في الفلسفة بـ"الهوية السلبية" (Negative Identity) التي تفتقر للاستقلالية الوجودية. المشكلة الأنطولوجية: "الكيزان المضاد" يعيش في تبعية وجودية للكيزان الأصليين - فوجوده مشروط بوجودهم كـ"آخر" يُعرّف نفسه في مواجهته. المشكلة المعرفية: يفتقر لمشروع معرفي مستقل، فهو مجرد "رد فعل" وليس "فعل" أصيل. 🔸حميدتي كـ"مفكك الدولة" (State Deconstructionist) بدلاً من بناء مشروع دولة بديل، يتبنى حميدتي استراتيجية تفكيك الدولة الموجودة. هذا ما يُسمى في النظرية السياسية بـ"التفكيكية السياسية" (Political Deconstructionism) - وهي استراتيجية تقوم على تدمير البنى الموجودة دون امتلاك رؤية واضحة للبديل. 🔸فلسفة "ما بعد الكيزان" الوهم ما بعد الأيديولوجي يدعي حميدتي تمثيل مرحلة "ما بعد الكيزان" التي تتجاوز الصراعات الأيديولوجية نحو "البراجماتية السياسية". لكن هذا الادعاء يقع في فخ ما يُسمى بـ"الوهم ما بعد الأيديولوجي"- فكل موقف سياسي هو بالضرورة أيديولوجي، والادعاء بتجاوز الأيديولوجيا هو في حد ذاته موقف أيديولوجي. 🔸النيوليبرالية المقنعة ما يُقدمه حميدتي كـ"تجاوز" للصراع الأيديولوجي هو في الواقع تبني ضمني للنموذج النيوليبرالي القائم على: • اقتصاد السوق الحر: تحرير الموارد الطبيعية للاستثمار الأجنبي • الدولة الضعيفة: تقليص دور الدولة لصالح القطاع الخاص والقوى الخارجية • التعددية السطحية: تعددية شكلية تخفي هيمنة رأس المال 🔸التحليل المقارن: الأصل والمحاكاة من منظور نظرية المحاكاة (Mimetic Theory) وفقاً لنظرية رينيه جيرار حول المحاكاة، فإن حميدتي يُجسد النموذج الكلاسيكي للـ"المحاكي المنافس" (Mimetic Rival) الذي يُقلد خصمه في محاولة للتفوق عليه، لكنه ينتهي بأن يصبح نسخة مشوهة منه. الكيزان الأصليون: نموذج أصلي يحمل رؤية حضارية متماسكة حميدتي: محاكٍ يفتقر للأصالة الفكرية، فيلجأ للعنف كتعويض عن النقص المعرفي من منظور نظرية الهيمنة (Hegemony Theory) الهيمنة الحقيقية (الكيزان): تقوم على بناء توافق اجتماعي حول مشروع حضاري شامل، حيث تصبح قيم الطبقة الحاكمة قيماً للمجتمع ككل. الهيمنة المزيفة (حميدتي): تعتمد على القوة العسكرية والإكراه الاقتصادي، وتفتقر للبُعد الثقافي والمعرفي الضروري لبناء هيمنة حقيقية. 🔸الخطر الفلسفي: تشويه المفاهيم والتجربة أزمة التمثيل المعرفي يُشكل مشروع حميدتي خطراً معرفياً جسيماً على التجربة الإسلامية الأصيلة من خلال: التلويث المفاهيمي: خلط المفاهيم الإسلامية الأصيلة بممارسات سلطوية فجة التشويه التاريخي: ربط فشل مشروعه بالإسلام السياسي عموماً الإرباك المعرفي: خلق حالة من الالتباس حول طبيعة المشروع الإسلامي الحقيقي 🔸نحو استعادة النقاء المعرفي تتطلب مواجهة هذا التشويه: التمييز المفاهيمي الواضح: بين الإسلام السياسي الأصيل ومحاكييه المشوهين إعادة التأسيس المعرفي: تجديد الخطاب الإسلامي السياسي وتطوير أدواته النظرية البناء المؤسسي: تطوير مؤسسات قادرة على حماية التجربة الإسلامية من التحريف 🔸الخاتمة: الأصل والظل في التاريخ السياسي من منظور الفلسفة السياسية، تُمثل التجربة السودانية الراهنة حالة دراسية فريدة لآليات إعادة إنتاج السلطة وتشويه المشاريع الحضارية. فما نشهده ليس مجرد صراع سياسي عابر، بل صراع بين "الأصل" و"الظل" - بين مشروع حضاري أصيل ومحاكيات مشوهة تحاول سرقة شرعيته. الحركة الإسلامية السودانية قدمت نموذجاً متقدماً لما يمكن أن تكونه الدولة الإسلامية في العصر الحديث - دولة تجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين الهوية الحضارية والانفتاح العالمي، بين العمق الروحي والكفاءة التقنية. أما مشروع حميدتي فيُمثل نموذجاً للمحاكاة الناقصة التي تُحاول تقليد شكل السلطة دون امتلاك مضمونها، والقوة دون الشرعية، والسيطرة دون الهيمنة الحضارية. التحدي الفلسفي والسياسي الراهن هو حماية الأصل من تشويهات المحاكيين، وإعادة تأسيس المشروع الحضاري الإسلامي على أسس معرفية ومؤسسية راسخة، قادرة على مواجهة تحديات العصر دون التفريط في جوهرها الحضاري.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة