تنعقد القمة العربية الإسلامية الطارئة في الدوحة في ظل الغارة الإسرائيلية الغاشمة التي استهدفت مواقع سكنية في قطر، في مشهد يذكّر العالم بأن التهديدات الأمنية باتت عابرة للحدود، وأن أي دولة، حتى وإن لم تكن طرفا في نزاع مباشر، قد تجد نفسها فجأة هدفا لهجوم عنيف. هذه اللحظة تختبر قدرة النظام العربي والإسلامي على الانتقال من لغة البيانات المعتادة إلى أدوات فعل مؤثرة، قادرة على ردع الخصم أو على الأقل رفع كلفة اعتداءاته. فالمخرجات المنتظرة، كما جرت العادة، قد تتراوح بين بيانات إدانة وتضامن واضحة، وبين دعوات لمساءلة دولية أو إحالات للأمم المتحدة، وربما تتوسع إلى خطوات دبلوماسية مثل استدعاء سفراء أو تقييد العلاقات الثنائية. غير أن هذه الإجراءات، مهما بدت قوية في الخطاب، تبقى في معظم الأحيان رمزية أكثر من كونها قادرة على إحداث ردع مباشر. القراءة المتأنية لمسار القمم العربية والإسلامية خلال العقدين الأخيرين تكشف نمطا متكرّرا: كلمات قوية تعكس إجماعا سياسيا، لكنها غالبا ما تُصاغ في شكل عام يفتقر إلى جداول زمنية أو آليات تنفيذ واضحة.
قمة جدة عام 2023 مثلا، أكدت على مركزية القضية الفلسطينية ووحدة الصف العربي، لكنها انتهت إلى بيانات سياسية لم تتحول إلى مسارات عملية موحّدة، في حين اكتفت قمة الجزائر عام 2022 بدعوات لتعزيز الأمن الغذائي ودعم الفلسطينيين دون أن تترجم إلى برامج جماعية ملموسة. وحتى في اجتماعات منظمة التعاون الإسلامي، ورغم وجود إطار مؤسساتي أوسع، يبقى التنفيذ مرهونا بإرادة الدول الأعضاء وليس بإلزامية جماعية، وهو ما يضعف الأثر العملي ويجعل القرارات أقرب إلى إعلانات نوايا.
يدخل هذا النمط من القمم والمؤتمرات وما يصدر عنها من بيانات في سياق ما يُعرف بـ«القوة الناعمة»، وهي قدرة الدول أو التكتلات على التأثير من خلال الصورة الأخلاقية والسياسية والإقناع الدبلوماسي، بدلا من فرض الإرادة بالقوة العسكرية. هذه القوة الناعمة تكتسب قيمتها في بناء الرأي العام العالمي وصياغة سردية سياسية متماسكة، لكنها قد لا تناسب بعض التهديدات التي تعتمد في جوهرها على «القوة الصلبة». فالخصم في مثل هذه الحالات يلجأ إلى الوسائل الخشنة، ولا يتورع عن استخدامها دون حساب لردود الفعل المعنوية. ولعل الهجوم الأخير على الدوحة خير مثال، فالدوحة لم تكن يوما طرفا في نزاع مسلح، بل عُرفت على مدى سنوات بدورها كوسيط للسلام، ومع ذلك لم يسلم أمنها الداخلي من الاستهداف.
تفسير الفجوة بين الخطاب والواقع يرتبط بعدة عوامل. فالمصالح الوطنية للدول العربية والإسلامية متباينة، إذ تختلف أولويات بعضها بين من يسعى إلى استقرار اقتصادي عبر التهدئة، ومن يفضل رفع سقف المواجهة السياسية مع الخصوم. كما أن شبكة العلاقات الثنائية، خاصة مع القوى الكبرى، تجعل بعض العواصم أكثر حذرا من الانخراط في قرارات جماعية قد تُفقدها مكاسب آنية أو تهدد مصالحها الاستراتيجية. يضاف إلى ذلك غياب آليات إنفاذ إقليمية حقيقية؛ فلا توجد قوة مشتركة قادرة على فرض القرارات، ولا صندوق طوارئ ملزم يتيح التحرك السريع في مواجهة الأزمات. أما الضغط الدولي المتعدد الأوجه فيبقى عاملا مقيّدا، إذ غالبا ما تتأثر القرارات بموازين القوى العالمية ومواقف العواصم الكبرى.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن القمم تحقق بين الحين والآخر نجاحات محدودة. ففي بعض الأزمات الإنسانية، نُظمت حملات إغاثة عبر مؤسسات عربية وإسلامية، وفي لحظات حرجة نجحت التحركات الجماعية في دفع مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى الانعقاد بناء على طلب عربي أو إسلامي موحد. كما لعبت بعض القمم دورا في بلورة موقف تفاوضي أو في إعادة الاعتبار لقضايا تراجعت على الأجندة الدولية. غير أن هذه النجاحات تظل استثناءات محدودة لا ترتقي إلى مستوى التحديات الأمنية والاستراتيجية التي تواجه المنطقة.
قمة الدوحة، في هذا السياق، تطرح اختبارا جديدا. فإذا اكتفت ببيان إدانة قوي يرفع الصوت العربي والإسلامي، فإنها لن تخرج عن إطار المألوف، أما إذا تضمنت آليات متابعة قابلة للقياس مثل تشكيل لجنة تنفيذية، أو وضع خريطة طريق دبلوماسية بجدول زمني محدد، أو تخصيص موارد مالية لصندوق طوارئ، فإنها قد تؤسس لتحول نوعي في مسار العمل الجماعي. الجمهور العربي والإسلامي بات أكثر وعيا بالفجوة بين الخطاب السياسي وما يجري على الأرض، وهو ما يضع القادة أمام مسؤولية تاريخية تتجاوز لغة التضامن اللفظي إلى صناعة أدوات حقيقية للتأثير في مجرى الأحداث.
إن التحدي الذي يواجه القادة اليوم لا يتعلق فقط بكيفية صياغة بيان قوي، بل بكيفية إقناع الشعوب بأن هذه الكلمات يمكن أن تتحول إلى فعل. فالقوة الناعمة، مهما كانت أمواجها عالية، تظل بحاجة إلى دعائم صلبة تحميها من الانكسار أمام عنف القوة الخشنة. وقمة الدوحة، بما تمثله من لحظة فارقة، قد تكون نقطة الانطلاق لبناء هذا التوازن، أو مجرد محطة جديدة في مسار طويل من الخطاب غير المقرون بالفعل.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة