قبل أكثر من سبع سنوات استضيفت الفنانة منى مجدي في برنامج الكاميرا الخفية في إحدى القنوات السودانية. وكانت فكرة البرنامج أن تتم مداهمة المكان الذي فيه الضيف واقتياده ومن معه الى قسم البوليس، وطلبوا من منى ان تركب سيارة الشرطة، وهنالك امرأة أخرى تم الزج بها في صندوق السيارة الخلفي. رغم الموقف العصيب طلبت منى أن يتم انزال المرأة لتركب معها في المقاعد الأمامية، طلبت ذلك بصورة عفوية وتلقائية. وعندما رفضوا طلبها رفضت أن تركب أماما، وركبت في الصندوق بجوار المرأة. كان مشهدا في غاية الإنسانية يكشف عن شخصية استثنائية. إن الذي يميز الفنانة منى مجدي في أداء الأغنيات إحساسها العالي وتلقائيتها العذبة. وكشفت إصابة منى بمرض السرطان عن امرأة في غاية الصلابة والجلد. فقد واجهت المرض وتداعياته بشجاعة نادرة، وأضحت ملهمة للكثيرين. قالت منى في فيديو قصير صدر مؤخرا إنها ليست مع (بل بس) وإنها مع السلام، وأبدت استغرابها لتأييد بعض الفنانين للحرب. وعلى خلفية هذا الفيديو هاجمها، للأسف الشديد، أحد مؤيدي حرب الدولة ضد جنجويد الإمارات، وعيّرها بمرضها، بكلمات لا تصدر من إنسان سوي. فهو قد حاول الإساءة اليها ولكن ارتدت الإساءة إليه. كما أنه أضر بالقضية التي يظن أنه يناصرها. *** إن الفنانين والمبدعين مع السلام لا شك في ذلك، إذ أنه غاية الغايات. ولكن الطريق إلى السلام قد يتطلب خوض الحرب. ففي حالة مواجهة الأوطان للاحتلال والغزو يتحول الفنانون والمبدعون إلى مقاتلين بالكلمة والموسيقى والريشة، ابتغاء للسلام. فقد كتب الشاعر الكبير محمد مفتاح الفيتوري عن السلطان تاج الدين الذي قاوم القوات الفرنسية الاستعمارية في معركة دورتي دفاعا عن ارضه وشعبه - كتب عنه قصيدة "مقتل السلطان": ها هم قدموا يا تاج الدين فانشر دقات طبولك ملء الغاب حاربهم بالظفر، وبالناب طوبى للفارس إن الموت اليوم شرف داسوا عزة أرضك هتكوا حرمة عرضك عاثوا ملء بلادك غازين غرباء الأوجه سفاكين فاضرب..اضرب..يا تاج الدين اضرب..اضرب..اضرب..
وقد اسمى الفيتوري ابنه "تاج الدين" تيمنا بالسلطان الشهيد. ومن سخريات القدر أن تاج الدين الفيتوري قد استشهد، هو نفسه، في هذه الحرب بسلاح ميليشيا الجنجويد الإماراتية! وقد مجّد الفنان المثقف عبد الكريم الكابلي المناضلة الجزائرية جميلة بو حيرد التي قاومت الاستعمار الفرنسي بجميل النغم .. كـ ملابس جُنــدي مجروح مطعوناً بين الكتفيــن ذات الخـطــوات الموزونة كـ صدى الأجـراس المحــزونة كـ لهاة الطفل بقـلب سرير لم تبــلغ سن العشــرين واختارت جيش التحرير
إذ أن خوض الحرب وحمل السلاح ليس حكرا على الرجال. وقد كتب الشاعر المجيد محمد الحسن سالم حميد: إيدين بنيات الفريق إن داهم الحلاّل خطر قادرات على شيل السلاح
وأي خطر أكبر من خطر هذه المليشيا الرعناء التي تسفك الدماء شمالا ويمينا. ولذلك كانت هنادي الفاشر تضمد الجراح وتحمل السلاح. ومن منا لم يطرب لفنان افريقيا الأول، كما يحلو لبعضنا، محمد وردي في أغنية (عرس الفداء): لك يا أرض البطولات وميراث الحضارات نغني اليوم في عرس الفداء ها هنا يبتسم النهر القديم لبعانخي ولترهاقا وللمهدي ولـ علي عبد اللطيف ولعبد القادر الحبوبة للقرشي لصمود العزم في كرري وللموت الفدائي العظيم! *** ونغني لك يا وطني كما غنى الخليل مثلما غنت مهيرة تلهب الفرسان جيلاً بعد جيل ونغني لحريق المك في قلب الدخيل للجسارة حينما استشهد في مدفعه عبدالفضيل..
الفنانون يقاتلون بالريشة - أيضا - مثلما فعل (عبيد) مؤخرا برسم المرأة الشهيدة التي علقها الجنجويد على الشجرة من ذراعيها لتموت بعد الكثير من الساعات بدل من شنقها من رقبتها لتموت في ثوانِ معدودات، وذلك ليتلذذوا من تعذيبها - رسمها عبيد ككرفتة حمراء في عنق حكومة تأسيس الجنجويدية. والقتال بالريشة خطر فقد يودي بصاحبه كما أودى بحياة ناجي العلي اثناء مقاومة ريشته للاحتلال الصهيوني لفلسطين. وتأتي رواية الكاتب الكبير عبد العزيز بركة ساكن (الأشوس.. الذي حلقت أحلامه مثل طائرة مسيرة) في إطار المقاومة الإبداعية. ولقد آزر فنانون الشعب السوداني بالمواقف، مثل ما فعل مغني الراب الامريكي الشهير ماكليمور، الذي رفض أن يحيي حفلا في دولة الإمارات تضامنا مع شعب السودان الذي يتعرض الى الإبادة الجماعية والأزمات الإنسانية، وقال ماكليمور: "إلى أن تتوقف الإمارات عن تسليح وتمويل قوات الدعم السريع، لن أؤدي (أي عرض) هناك". من يظن أن الفنان لا يقاتل مطلقا فقد أخطأ، وانساق وراء سردية تخذيلية تهدف الى تثبيط الشعب وجعله لقمة سائغة لأطماع الغزاة. إن الفنان الحق "يعرف متين يبقى المطر ويفهم متين يصبح حريق" !!
09-14-2025, 05:50 AM
محمد عبد الله الحسين محمد عبد الله الحسين
تاريخ التسجيل: 01-02-2013
مجموع المشاركات: 11859
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة