في منعطف حرج من الحرب السودانية التي أنهكت البلاد وأرهقت الإقليم، تتصاعد وتيرة الدبلوماسية الدولية متزامنة مع أدوات العقاب. بيان اللجنة الرباعية (الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، مصر) الذي دعا إلى هدنة إنسانية فورية لثلاثة أشهر، والعقوبات الأمريكية المفاجئة التي استهدفت وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم والميليشيا الإسلامية "كتيبة البراء بن مالك"، ليسا حدثين منفصلين، إنهما وجهان لعملة واحدة : استراتيجية ضغط دولية متعددة المسارات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وكسر الجمود الدموي.
قراءة في بيان الرباعية: هدنة لاختبار النوايا أكثر من تحقيق السلام دعوة الرباعية للهدنة يمكن قراءتها من ثلاث زوايا: الزاوية الإنسانية الملحة: الانهيار الكامل للخدمات الأساسية ومواجهة السودان لمجاعة جماعية يفرضان على المجتمع الدولي التحرك. الهدنة، حتى لو كانت هشة، هي القناة الوحيدة المتاحة لإدخال المساعدات وإنقاذ ملايين الأرواح. إنها محاولة لكسب الوقت في سباق ضد الموت.
الزاوية السياسية والاستراتيجية: البيان يصدر عن أربع قوى لها مصالح متشابكة وأحيانًا متضاربة في السودان. الدعوة إلى الهدنة تمثل "القاسم المشترك الأدنى" بينها. إنها محاولة لتوحيد الرسالة الدولية وإعادة ترتيب أوراق النفوذ في ملف معقد، حيث تدعم بعض الأطراف الجيش السوداني بشكل مباشر أو غير مباشر، بينما تتهم أخرى بدعم قوات الدعم السريع. الهدنة هنا وقفة لإعادة تقييم المواقف واختبار إمكانية أي حل سياسي مستقبلي.
زاوية الاختبار الميداني: البيان ورقة ضغط على الطرفين المتحاربين. الموافقة تعرّفهما أمام شعبهما والمجتمع الدولي، بينما الرفض يكشفهما كمتعطشين للقتال بلا اعتبار للشعب. لكن السيناريو الأرجح، كما يشير التحليل، هو موافقة شكلية تتبعها \خروقات ميدانية متكررة، ما لم تُرفق الهدنة بآلية مراقبة دولية قوية ومحايدة.
مخاوف الأطراف: لماذا التردد في قبول الهدنة؟ قبول أي من الطرفين للهدنة ليس قرارًا إنسانيًا بحتًا، بل هو حساب استراتيجي دقيق:
الجيش السوداني: يخشى أن تكون الهدنة فخًا له. أي وقف لإطلاق النار يمنح قوات الدعم السريع الفرصة لترسيخ سيطرتها على الأراضي التي احتلتها، وتجميع صفوفها، وتحصين مواقعها، مما يعقّد أي عملية عسكرية مستقبلية لاستعادتها. كما يخشى أن تستغل الميليشيات الإسلامية الهدنة للتوسع.
قوات الدعم السريع: ترى في الهدنة اعترافًا دوليًا بها كقوة لا يمكن تجاهلها، لكنها تخشى أن يستغل الجيش هذا الوقت لإعادة تنظيم قواته، واستقدام تعزيزات ودعم لوجستي من حلفائه، لشن هجوم مضاد مدمر بمجرد انتهاء الهدنة.
القوى المدنية: تواجه معضلة؛ الضغط الشعبي يدفعها إلى الترحيب بأي مبادرة توقف القتل، لكن قبولها السريع قد يُفسر كشرعنة للواقع الذي فرضه الجنرالات، وإضفاء شرعية على أطراف تسببت في دمار البلاد، مما يهدر مبادئ الثورة ويمهد لحكم عسكري جديد بوجهين.
عقوبات واشنطن- رسالة قوية تتجاوز وزير المالية العقوبات الأمريكية على وزير المالية جبريل إبراهيم (زعيم حركة العدل والمساواة) والميليشيا الإسلامية "كتيبة البراء بن مالك" ليست مجرد رد على فساد أو انتهاكات، بل هي رسالة متعددة الطبقات: ضرب التحالفات الإقليمية المعقدة: بكشفها العلاقة مع إيران، تضرب الولايات المتحدة عدة عصافير بحجر واحد: إضعاف النفوذ الإيراني في البحر الأحمر وأفريقيا، وهو هدف استراتيجي أمريكي. معاقبة الإسلاميين السودانيين الذين تتهمهم واشنطن بإجهاض الانتقال الديمقراطي وإشعال الحرب. توجيه رسالة تحذير لكل الأطراف، بمن فيهم الجيش والدعم السريع، بأن اللعب مع أطراف إقليمية معادية للمصالح الأمريكية له ثمن باهظ.
استهداف تمويل الحرب: وزير المالية هو المشرف على خزينة الدولة. استهدافه شخصيًا يشير إلى اتهامات باستخدام أموال الشعب في تمويل الصراع وتعزيز النفوذ الشخصي لزعيم حركة مسلحة تحت غطاء الدولة. هذه العقوبات تسعى لتجفيف أحد مصادر التمويل التي تغذي النزاع. التنسيق مع بيان الرباعية: تظهر العقوبات أن الولايات المتحدة لا تضع كل رهاناتها على الدبلوماسية اللطيفة للرباعية، بل تستخدم "عصا" العقوبات إلى جانب "جزرة" الدعم الإنساني والضغط الدبلوماسي. إنها إشارة واضحة إلى أن واشنطن مستعدة لتسمية الأطراف المسببة للدمار ومعاقبتها مباشرة، بغض النظر عن انتماءاتهم.
الخلاصة: طريق طويل نحو السلام بيان الرباعية والعقوبات الأمريكية يمثلان محاولة للخروج من مأزق التدخل في السودان. الأول يعكس أمل المجتمع الدولي في وقف الكارثة الإنسانية، والثاني يجسد إرادة معاقبة من يعرقلون هذا الأمل ويعقدون الأزمة بتحالفاتهم الخطيرة.
لكن النجاح لا يزال رهناً بإرادة الأطراف السودانية نفسها. الهدنة لن تتحول إلى سلام دائم إلا إذا كانت مقدمة لمفاوضات سياسية جادة تفضي إلى حكم مدني يليق بثورة ديسمبر وتضحيات الشعب السوداني. وحتى ذلك الحين ستظل الدبلوماسية الدولية والعقوبات مجرد أدوات لإدارة الأزمة، لا حلها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة