تواثقنا ثلاثتنا، النور حمد وعبد الله الفكي البشير وأنا، مع معهد الدوحة لدراسة السياسات على جمع شمل ممثلين للطيف السياسي في الدوحة في 2012 في لقاء تفاكري في ما يعرف ب" الحوارات العصية" للتداول حول الأزمة السودانية. وأنشر هنا الورقة المفتاحية لتلك الحوارات.
لا غلاط أننا توصلنا طواعية، وبعد لأي، لحق تقرير المصير للجنوب ثم استهولنا نتيجته وصار عيباً وعاراً يلاحق من قام به إلى الأبد. فلما لم يستظل الحق بالثقافة صار عظمة نزاع بين السياسيين وصار مغزاه فوضى أو خيانة أو خذلاناً بدلاً عن ممارسة لحرية أجمعنا عليها. وهذه اللجلجة مضرب المثل في التنصل عن معنى التجربة.
ولعل أظهر مظاهر غيبة المعنى عن التاريخ فشو التلاوم حول من فصل الجنوب. بالطبع وزر الحكومة فاضح فقد وقع خلال نبطشيتها وفي ظروف دولية وإقليمية ووطنية رشحت سبيلاً غير الانفصال لإعادة ترتيب البيت السوداني. ولكن لا يحتاج المرء لأكثر من الاستماع للصوت الجنوبي، الذي لم نكترث له، والذي لا يفرق في مسألته بين القائم بالأمر من صفوة السياسة العربية الإسلامية، أو من قاموا به في الماضي، أو من يزعم القيام به في المستقبل. فكلهم سواء في نظر الجنوب في فساد طرائقهم لإدارة التنوع. بل ربما سمعنا القائل منهم إن الإنقاذ، مهما قلنا من سيئاتها، هي التي أوفت دون الآخرين بميثاقها معهم.
ومن المؤسف أن ننحدر بمبدأ عظيم في الحرية إلى هذا الدرك. فنشأ المبدأ كما هو معلوم في أفئدة عظيمة. دعا له الرئيس ودرو ويلسون وفلاديمير إيلتش لينين وألهم حركة التحرر الوطني في المستعمرات بعد الحرب العالمية الثانية. ولكنه أٌهمل وسقط في شقوق السياسات القومية الطماعة المتسلطة في دولة ما بعد الاستعمار. فقررت منظمة الوحدة الأفريقية نهاية حق تقرير المصير بتحرر المستعمرات من القوى الأوربية التي حكمتها. وصارت حدود تلك الأوطان الجديدة مقدسة. ولذا استهجنت المنظمة انفصال بيافرا عن نيجريا واصطّفت مع الحكومة النيجيرية لرد بيافرا إلى صوابها حتى نجحت. من جهة أخرى لم تجد حركة إنفصاليّ جنوب السودان أذناً صاغية في المنظمة وإن ساندتهم دول بعينها منها.
وهذا المعيار المزدوج للمنظمة الأفريقية حيال مبدأ تقرير المصير أصيل فيه. فقد اختلط أمر الناس خلال عرض المبدأ الويلسني في مفاوضات سلام فيرسايل في فرنسا (1919): "فلم يقع لأي من المفاوضين انطباق المبدأ على إمبراطوريته بالذات في حين انطبق على الإمبراطورية التي سحقها". ونبه سوداني جنوبي إلى مناصرة المسلمين حق ألبان كوسفو في الانفصال عن صربيا بينما يتجهمون في وجه نفس المطلب لجنوبيّ السودان.
لم يستو مبدأ تقرير المصير فينا لأن صفوتنا نظرت إليه كممارسة "حلال" في التسييس و"حرام" في السياسة. وكرهه الناس كما يكرهون الطلاق في الزواج. والحق أن مجاز الزواج قديم قدم المبدأ. فقال لينين إنه لا يتبغي الربط بين الوقوف مع المبدأ وتشجيع انفصال القوميات. لأن مثل هذا الفهم سيكون سخيفاً ومنافقاً مثل ربط الداعين إلى بسط حق الطلاق للزوجين بتشجيع تحلل الأسر. ويكثر الطلاق كمجاز في فهم حق تقرير المصير في الخطاب السوداني الذي غلبت فيه الآية القرانية (أمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف (2:231)
لو كان مثقفنا يأخذ ذمته الفكرية بجد واستقلال وكدح لما جعل الانفصال، المترتب على حق تقرير المصير، مذمة وموضوعاً للتلاوم. والنظر المقارن من أوجب وجوه الذمة الفكرية للمثقف. فقد مر زمن على الإنسانية كان فيه انفراط دولة ناشزة سمة للعقل والشجاعة. وقد أطرى ألكس توكفيل، مؤلف كتاب "الديمقراطية في أمريكا" (1835)، أمريكا لتلك المأثرة. فلم ينفعل ببسالة الأمريكيين المعروفة في تحرير بلدهم من البريطانيين في 1778 بقدر انفعاله بإعادتهم التفاوض في مصائر وطنهم الذي تفرق شيعاً في المؤتمر الدستوري بفلادلفيا عام 1786 والذي بنوا فيه "اتحاداً ناجزاً". ولم ينتاب السودانيين حظ الأمريكيين بالحصول على توكفيل"هم" ليثني على بعد نظرهم السياسي. خلافاً ذلك وطأهم الناس بمنسم وعيروهم كشعب فاشل. ومن أسف أن الناعين ردوا هذا الفشل إلى شذوذ ثقافي لم تأتلف به العروبة والأفريقية أو الاسلام والمسيحية (والعقائد التقليدية) في البلد. ومع أن هذه الحقائق الثقافية غير منكورة الأثر في المسألة السودانية إلا انها الزبد لا الجوهر. فأصل الإشكال وديناميكيته في فشل الحركة الوطنية الوارثة للاستعمار في ترتيب وطن يسعد قوميات الأمة وجماعاتها قاطبة. وهو فشل يتساوى السودان فيه مع سائر أمم لمستعمرات السابقة. من تصفح تاريخ سودان ما بعد الاستعمار سيعرف لماذا كنا في السودان البادئين بمخاطرة تقرير المصير. فالسودان اشتغل بعملية تصفية الاستعمار كما لم تنشغل دولة أخرى به. ولهذا التاريخ قسمات ثلاث: 1- صفوة وطنية تغاضت عن التنوع العرقي والثقافي في الأمة الوليدة كما مر وتمسكت بحرفية الوطنية في توحيد الشعوب والقبائل على حد ثقافتها هي لا غيرها. أو ما عرف ب "البوتقة". وصدف أن كانت هذه البوتقة هي العروبة والإسلامية. وستجد الصفوة الوطنية الوريثة للاستعمار على غرارها في كينيا وساحل العاج قد فرضت ثقافاتها هي دون غيرها فأسقمت أهلها. ولكن صفوتنا دون غيرها شقية حال لأنها كانت أضعف من فرض هيمنتها بالقوة (hegemony) على الآخرين، أو بتسويغ تلك الهيمنة كأمر واقع بالتراضى مع الآخرين هيمنتها (consent). وبلغت هذه الصفوة الوطنية الباكرة من الضعف حداً انتزع منها العسكريون والقوميون الدينيون مقاليد الأمور بعد عامين من الاستقلال ولمدة 43 من عمره البالغ 54 عاماً. 2- 2- صفوات قومية على هامش المستعمرة السابقة لم تكف عن طلب مواطنة كاملة كمستحق من مستحقات تصفية الدولة الاستعمارية وبشرى الاستقلال. فقد "تمردت" صفوة جنوبية بتنسيق مع الفرقة الجنوبية في توريت بالجنوب عام 1955 قبل استقلالنا بعام واحد. ثم توالت يقظة قوميات الهامش. فكون البجا مؤتمرهم في 1957 ثم جاء النوبة باتحاد جبال النوبة في مفتتح الستينات وظهر تنظيم نهضة دارفور في 1964. ونادت هذه الصفوات جميعاً بمواطنة أبعد نجعة مما وفرته صفوة الشمال القابضة من جهة تحويل الرعايا إلى مواطنين. 3-حركة وطنية ديمراطية جماهيرية كانت كالمضيف لحركات صفوة الهامش وصوتها الناطق بمظالمها في المركز بهدف بناء تحالف بينها والمواعين النقابية التي انتظمت فيها القوى الجماهيرية للانعتاق من الاستعمار حقاً لا بمجرد علم ونشيد. وكانت لحظة هذه القوى الجماهيرية الغراء هي ثورة اكتوبر 1964 التي جاءت بحكومة لا سمعنا بها قبلاً ولا بعداً مثلت العمال والمزارعين والمهنيين وعقدت مؤتمر المائدة المستديرة لمناقشة مسألة الجنوب وردت المواطنة للنساء والشباب فوق سن الثامن عشر بمنحهم حق التصويت. بل كانت شرارة الثورة نفسها في إطار نقاش وطني عام حول بؤس سياسات الجنرال عبود في الجنوب ولوقف الحرب والتماس حل سلمي ديمقراطي لمسألته.
ومتى أحسنا قراءة حق تقرير المصير السوداني سنجد أنه تتويج للمساعي المعقدة لشعوب سودانية عظيمة لم تقبل بالدنية في مواطنتها وسهرت على أشواقها لوطن عادل وسوي وبذلت تضحيات نادرة وطويلة. وهذا استثمار في الحرية يغيب عن علوم السياسة التي توقفت بنازع الحرية عند حركة التحرر من الاستعمار. وأصبح النضال للحق والحرية، الذي أعقب الاستعمار، مما يثير ريب علمائها ممن نظروا له من باب الفتنة والفوضى. وهناك بالطبع من ناصر هذا النضال لمأرب قصير التيلة.
صار السودان من جراء ذلك كله بين نارين. فهو موصوف بأنه دولة فاشلة ستتفرق أيدي سبأ بمقياس "ريختر" لانفلات البلدان. فهو عندهم قد "نجح" في اجتياز كل معاييرهم للفشل المزري. وهو من الجهة الأخرى ملعون من علماء السياسة إذا تفادى فشله وتفرقه باستفتاء جماعاته المظلومة حول مصائرها. فتقرير المصير عند هؤلاء العلماء فيروس سيغزو جسد أمم أفريقيا وغيرها ويعديها. والعيب في علماء السياسة لا السودانيين الذين شخصوا الداء وعرفوا الدواء من فوق طريق طويل للآلام فالحرية. فعلماء السياسة ما يزالون يتداولون في فض الدولة-الأمة بمصطلح النكاح. فالطلاق خيبة وخراب عمار وضيعة أطفال. وسينتطر السودانيون توكفيل"هم" الذس سيميز تبنبهم أعادة التفاوض في بلدهم وتقرير المصير كتحليق شجاع على ذرى الحرية.
وليست الفاجعة في قبولنا بتخرصات العالم عنا فحسب بل باستدبارنا لتاريخ طويل في المسألة القومية اقتنعنا بعدها بأن نقطع دابرها بإعمال مبدأ تقرير المصير كممارسة مشروعة لتفكيك آثار الاستعمار. ولكن ما وقع الانفصال حتى ترخصنا في هذا الحق وأقبل بعضنا على بعض يتلاومون في من المسؤول عنه. لا أحد. فللحرية الحمراء باب. وإذا الشعب يوماً أراد الحياة،
خاتمة
أردت بهذه الورقة تنزيل الثقافة على السياسة الجرداء التي تقلبنا في بغضائها وداحسها وغبرائها حيناً طويلاً. ومتى استرددناها كانت لتجاربنا حسنها وقبيحها معنى. وقصدت بالورقة نقد الصفوة المثقفة من غير زاوايتها المفضلة وهي الفشل. فالفشل محصلة لا أسباب. ومن أقوى أسباب الفشل أن غالب الصفوة لم تلتزم بمقتضى الثقافة من جهة توفير منابرها وأدواتها بغير اعتذار بالفئة الباغية. فلم تعدم هذه الصفوة الملاجيء لأنفسهم حين طلبوها، ولكن عز الملجأ لإذاعة أو قناة فضائية أو حتى صحيفة. ولا اعتذار أيضاً بقلة المال فبعضهم حمل أسلحة للقتال ضد الإنقاذ أكلف من الصحيفة أو الكتاب. ولذا حين جاءت الانتخابات في 2010 كان عليهم أن يقبلوا بدقائق الإنقاذ الجاحدة في منابر الدولة الإعلامية أو المقاطعة.
وليس يستغرب، والحال على هذا، أن تمر تجارب الأمة المفصلية ومعناها مستتر ما يزال. وصرنا أمة مشردة من ذاتها وصفاتها. بل توحشنا منهما. فلم يثقل علينا الموت مسلط السيف علينا منذ عقود فنعتبر. ولا يزال يؤرقني كيف قبلنا بدفن أكثر قادتنا جزافاً في قبور مجهولة ونحن أهل ثقافة لا يذكر موت عالم منها إلا قيل "وقبره ظاهر يزار" كما في طبقات ود ضيف الله. أم كيف أصبحنا عالة على العالم نتكففه التجربة فيبخسنا أشياءنا. فقد صار الانفصال "لعنة" علينا بينما يبدو تقرير المصير (المفضي للانفصال كخيار) هو المبدأ المرشح حالياً لينقذ أكثر لاعيننا من مآزقهم السياسية.
وفي تنزيل الثقافة على السياسة كسب أخطر وهو استرداد قوى الأمة الحية إلى دائرة السياسة. وقد احتكر هذه الدائرة لعقود العصب المسلحة. وصارت كذلك لأنها أخطأت السبيل، في تدقيق لمّاح لأميركال كابرال، أرادت ان تكون ثوريين مسلحين فأنتهت إلى طغم مسلحة. والعصب المسلحة ممتنعة على الثقافة وقوى الأمة الحية عندها مخزون للتجنيد يبدأ بالأطفال. ولن نبلغ الشعب الذي تقطعت أسبابنا به بغير الثقافة خلافاً لما يعتقد الكثيرون الذي حسبوا أمية الشعب تزهدهم فيها. فالانقطاع عن الثقافة يسد أبواب الصفوة إلى الشعب لأن عزلة الصفوة اصلاً، في قول شينو اشيبي، في تَقَطُّع وشائجهم بالوجدان العميق للناس. ولذا تحضر الصفوة للمواكب ولا يحضر الشعب.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة