في مشهد سياسي وأمني غير مسبوق، نفذت إسرائيل هجومًا على قادة حركة حماس داخل الأراضي القطرية. لم تكن العملية مجرد ضربة عسكرية، بل إعلانًا صريحًا عن تحول في قواعد الاشتباك الإقليمي، وتحديًا مباشرًا لمفاهيم السيادة، والتحالف، والردع.
اختيار قطر، الدولة الحليفة للولايات المتحدة والتي تحتضن أكبر قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط، لم يكن عبثيًا. بل يحمل دلالات استراتيجية عميقة، تعكس رغبة إسرائيل في إعادة رسم حدود النفوذ، وتوجيه رسائل متعددة الأطراف بعضها لحماس، والجزء الأخطر موجه للدول العربية التي تسعى إلى لعب دور الوسيط في ملف غزة.
العملية، التي فشلت في تحقيق أهدافها العسكرية المباشرة، كشفت عن هشاشة التنسيق الأمني بين واشنطن وتل أبيب. كما أثارت تساؤلات حول مدى جدية الولايات المتحدة في حماية حلفائها، خاصة أن إدارة الرئيس دونالد ترامب اكتفت بإشارات دبلوماسية باهتة دون إدانة واضحة.
هذا الصمت الأمريكي، في مقابل الضجيج الإسرائيلي، لا يُقرأ فقط كضعف أو تقصير، بل كجزء من أسلوب سياسي متكرر للرئيس ترامب. أسلوب يقوم على مبدأ الضغط غير المباشر لتحقيق مكاسب تفاوضية، حتى لو كان الثمن هو المساس بثقة الحلفاء أو تقويض صورة أمريكا كقوة ضامنة.
ترامب، الذي لطالما تبنى نهجًا براغماتيًا في إدارة الملفات الدولية، لا يُعرف عنه الالتزام الصارم بمفاهيم التحالف التقليدي أو احترام التوازنات الدقيقة بين الحلفاء. بل يُفضل استخدام الأحداث المفاجئة كأدوات ضغط، حتى لو كانت تلك الأحداث تمسّ دولًا ترتبط بعلاقات استراتيجية مع واشنطن.
في هذا السياق، يمكن تفسير عدم تصدي أمريكا للهجوم الإسرائيلي على قطر بأنه سماح محسوب. الهدف منه خلق حالة من الإرباك السياسي تُجبر إسرائيل لاحقًا على تقديم تنازلات في ملف غزة، خاصة في ما يتعلق بوقف إطلاق النار أو تبادل الأسرى.
هذا النهج، وإن كان فعالًا على المدى القصير، يحمل في طياته مخاطر استراتيجية على المدى البعيد. إذ يُضعف من موقع أمريكا كقوة مهيمنة، ويُعزز منطق القوى الصاعدة التي تُراهن على احترام السيادة، مثل الصين وروسيا.
لكن الأهم أن هذا الهجوم يعكس عودة إسرائيل إلى نهج الاغتيالات الخارجية الذي تبنّته في سبعينيات القرن الماضي. حين طاردت قادة منظمة أيلول الأسود في عواصم أوروبية وعربية، ضمن ما عُرف بعمليات (غضب الله).
إعادة تفعيل هذا النهج في قلب الخليج العربي، وفي دولة حليفة لواشنطن، يُعد تصعيدًا غير مسبوق. كما يكشف عن تحول في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، التي باتت ترى أن ميدان المعركة لا يقتصر على غزة أو جنوب لبنان، بل يمتد إلى العواصم التي تحتضن الخصوم السياسيين، حتى وإن كانت محمية أمريكيًا.
العملية الإسرائيلية، التي أُطلق عليها اسم (قمة النار)، لم تكن وليدة قرار سياسي منفرد، بل جاءت نتيجة فرصة استخبارية نادرة. تمثلت في اجتماع غير معتاد لقادة الصف الأول في حركة حماس داخل الدوحة، لمناقشة مقترح أمريكي لوقف إطلاق النار.
هذا التوقيت الحساس يكشف أن إسرائيل لم تستهدف مجرد شخصيات، بل استهدفت العقل السياسي التفاوضي للحركة، في لحظة كانت فيها واشنطن تُروّج لدورها كوسيط. المفارقة أن ترامب وافق ضمنيًا على تنفيذ الهجوم، رغم علمه بأن الاجتماع يناقش عرضًا أمريكيًا، ما يُظهر ازدواجية في السلوك الأمريكي، ويطرح تساؤلات حول صدقية الوساطة التي تُقدمها واشنطن في ملفات الشرق الأوسط.
من زاوية أخرى، فإن استهداف قادة حماس أثناء اجتماع تفاوضي في الدوحة، يكشف عن رغبة إسرائيل في تعطيل المسار السياسي وفرض منطق القوة على طاولة التفاوض. هذا السلوك يُضعف من فرص التهدئة، ويُربك جهود الوساطة القطرية، التي باتت تواجه تحديًا مزدوجًا وهو الحفاظ على دورها كوسيط نزيه، وفي الوقت ذاته الدفاع عن سيادتها التي باتت مهددة من قبل حليفين متناقضين، أحدهما يحتضن قاعدتها العسكرية، والآخر يخرق أجواءها دون إذن.
العملية أيضًا تُعد مقامرة سياسية من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي لم يترك لداعميه الداخليين أو الخارجيين مساحة لتبرير ما حصل. فشل العملية، وتداعياتها الدبلوماسية، قد يُضعف موقفه في الداخل الإسرائيلي، ويزيد من الضغط عليه في ملفات الفساد والمفاوضات.
كما يمنح حماس فرصة لإعادة صياغة خطابها السياسي، مستندة إلى منطق (الاستهداف السياسي خارج ساحات القتال)، ما يُعزز من موقعها التفاوضي، ويُعيد ترتيب أوراقها في ملف الأسرى والتهدئة.
في السياق الإقليمي، لم يكن الهجوم مجرد اختبار للسيادة القطرية، بل اختبارًا لصمت العواصم المجاورة. تلك العواصم تتابع عن كثب كيف تتعامل واشنطن مع حليفها في الخليج حين يُستهدف من قبل إسرائيل.
هذا الصمت قد يُغذي شعورًا متناميًا بأن التحالفات الأمنية في المنطقة باتت تُدار بمنطق المصالح المتغيرة، لا بمنطق الالتزامات الثابتة. ما يدفع بعض الدول إلى تعزيز استقلالية قرارها الأمني، دون أن تُعلن ذلك صراحة.
أما على المستوى الشعبي، فإن المواطن القطري بات أمام سؤال وجودي وهو هل السيادة الوطنية محمية فعلًا؟ وهل التحالف مع واشنطن يمنح حصانة حقيقية؟ هذه الأسئلة قد تُعيد تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع، وتُعزز من مطالبات بتعزيز القدرات الدفاعية الذاتية، وتوسيع دائرة الشراكات الدولية خارج المظلة الأمريكية.
وفي خاتمة المشهد، تبدو قطر وكأنها تجرعت السم الزعاف مرة أخرى، كما فعلت حين انتهت حرب إسرائيل وإيران على أرضها، وتحملت تبعاتها الأمنية والدبلوماسية، بينما حصد ترامب حينها ثمارًا تفاوضية ودبلوماسية.
واليوم، قد يتكرر المشهد ذاته. فترامب، الذي سمح للهجوم الإسرائيلي دون أن يتصدى له، قد يكون بصدد استخدامه كورقة ضغط لتحقيق اختراق في ملف غزة، ليحصد مجددًا ثمار الأزمة دبلوماسيًا، بينما تتجرع قطر الكلفة السيادية والأمنية.
وبين صمت واشنطن، وغضب الدوحة، وتربص بكين وموسكو، تتشكل ملامح شرق أوسط جديد، لا تحكمه المبادئ، بل تُعيد رسمه الطائرات والصواريخ والصفقات العابرة للثقة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة