بين الطهرانية والعجز- لماذا تسبق الحركة الشعبية ما تُسمى بالقوى الديمقراطية السودانية في معركة المواطنة المتساوية رد علي مقال الأستاذ عارف الصاوي
10/9/2025 خالد كودي، بوسطن
في مقاله المعنون "صفقة العصفور والهواء: تأسيس السودان بين الوهم والذاكرة" (مجلة أثر – مركز فاكتس للصحافة، 5 سبتمبر 2025)، يقدّم الأستاذ عارف الصاوي نقداً لتحالف "تأسيس" والحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال. العنوان نفسه مأخوذ من استعارة للفيلسوف إيمانويل كانط، نقلها أدونيس وأوردها د. محمد سعيد القدال في كتابه الانتماء والاغتراب (1992)، حيث يتخيّل العصفور أنّ الطيران سيكون أسهل لولا الهواء، لكنه ينسى أن الهواء – رغم مقاومته الظاهرة – هو شرط الطيران ذاته. أراد الصاوي بهذه الاستعارة أن يوحي بأن تحالف "تأسيس" أشبه بصفقة متناقضة، أو علاقة قائمة على الوهم والاعتماد القسري. غير أنّ هذه الدلالة تنهار أمام حقيقة المشروع نفسه: فتحالف "تأسيس" لم يقم على وهم أو صفقة عابرة، بل على ميثاق ودستور انتقالي واضحين أعلنا مبادئ فوق دستورية – العلمانية، العدالة التاريخية، اللامركزية، وحق تقرير المصير – كحدود دنيا لا مساومة عليها. هذه المبادئ ليست "هواءً" يعوق الحركة، بل هي شرط الإمكان ذاته لبناء السودان الجديد؛ تماماً كما أنّ الهواء شرط الطيران. ومن ثمّ، فإن استعارة الصاوي تنقلب على مقصده: فغياب هذه المبادئ هو الذي يجعل الطيران مستحيلاً، أي يجعل بناء السلام العادل وهماً. إنّ قراءة الصاوي – برغم المحاولة والمتقنة – تظل أسيرة ما يمكن وصفه بـ"الطهرانية السياسية" التي ميّزت كثيراً من النخب السودانية، حيث يوجَّه النقد من موقع العلو الأخلاقي، من دون إدراك لطبيعة التحولات التاريخية الجارية، ولا قدرة علي الفعل ولا استيعاب للتجارب العالمية التي أثبتت أنّ السلام المستدام لا يقوم إلا على أساس المواطنة المتساوية والحقوق غير القابلة للتفاوض. وللناقش معه هذا:
النقاط الأساسية في مقال الأستاذ عارف الصاوي: ١/ التحالف بين الدعم السريع والحركة الشعبية: يرى عارف الصاوي أنه صفقة آنية تفتقد العمق السياسي، تقوم على مصالح ظرفية أكثر من كونها مشروعاً استراتيجياً. ٢/ التشكيك في جدية مشروع "تأسيس": اعتبر أن ما يُعرض كحكومة تأسيسية لا يتجاوز دعاية سياسية، مبنية على صور ورموز عاطفية أكثر من كونها مؤسسة على قاعدة اجتماعية واسعة. ٣/ العلمانية كقضية دعائية: يزعم الصاوي أن التحالف اختزل قضية العلمانية – التي كان يفترض أن تكون مطلباً فكرياً دستورياً نابعاً من قناعة شعبية – إلى أداة دعائية في يد الدعم السريع. ٤/ مظلمة النوبة: اتهم عبد العزيز الحلو بأنه أذاب مشروع النوبة التاريخي في مشروع حميدتي الظرفي، من دون مكاسب واضحة لشعوب جبال النوبة أو بقية السودانيين. ٥/ غياب الشرعية الجماهيرية: يرى أن حضور الجماهير في نيالا لا يُترجم إلى شرعية حقيقية، لأن القرارات الجوهرية صِيغت مسبقاً في نيروبي من قبل قادة التحالف، بعيداً عن الإرادة الشعبية. ٦/ التاريخ كذاكرة مقاومة: اختتم الصاوي باستدعاء صورة فلسفية مأخوذة من كانط عن العصفور والهواء ليؤكد أن أي مشروع سياسي لا يستند إلى "الذاكرة التراثية" ولا يعكس طموحات الناس محكومٌ عليه بالفشل
: ١/ الدروس الدولية: السلام يقوم على المواطنة لا على التسويات الشكلية يقدّم الصاوي نقده هكذا، وكأن التاريخ لم يُخبرنا بشيء! لكن التجارب الإنسانية تقول بوضوح: السلام المستدام لا يُبنى على تسويات جزئية، بل على مبادئ تأسيسية صلبة. منذ وستفاليا 1648 التي أرست مبدأ السيادة المتساوية، مروراً بالتعديلات (13–15) في الدستور الأميركي التي جعلت الحرية والمواطنة حقوقاً فوق دستورية، وحتى جنوب أفريقيا التي لم تُنهِ حربها إلا بقطع دابر الأبارتهايد والاعتراف بالمساواة الكاملة، نجد أنّ كل مشروع ناجح وضع المواطنة المتساوية أساساً، فعلام محاولات تمرير احتيال نخب السودان الفاشلة؟ ... أما حين تم الاكتفاء بترقيعات مثل أديس أبابا 1972 أو تسويات جيم كرو بعد الحرب الأهلية الأميركية، فقد انهارت سريعاً. فهل يريد الصاوي أن يكرّر على مسامعنا وصفات الفشل التي جرّبت وأثبتت خرابها؟ مؤسف ان نخب السودان لاتتعلم ابدا.
: ٢/ معنى التحالف بين الحركة الشعبية والدعم السريع الصاوي يسخر من التحالف ويصفه بالصفقة، متجاهلاً أنّ الدعم السريع لم يكن عدواً للحركة الشعبية لأنه وُلد عدواً، بل لأنه كان أداة طيّعة للمركز وباجندته. حينما انقلبت بندقية الدعم السريع على المركز نفسه، انتفى الشرط القديم. هنا يصبح السؤال الحقيقي: هل من مصلحة المجتمعات المتجاورة – النوبة والفور والعرب وغيرهم – أن تظل تتقاتل بالوكالة عن المركز؟ أم أن تبحث عن تصالحات جذرية تعيد بناء تعايشها السلمي المستدام والمنتج؟ التحالف لا ينكر الجرائم بما فيها ما ارتكبته عناصر من الدعم السريع، بل ينصّ ميثاق تأسيس صراحة على العدالة التاريخية وعدم الإفلات من العقاب. لكن السياسة الثورية ليست منابر شجب والسلام، بل اختراقات تغير المعادلات. أما الوقوف في مقاعد المتفرجين والاكتفاء بالنقد "الأخلاقي" فليس سوى صورة أخرى من التواطؤ.
٣/ لا طهرانية في السياسة الثورية: حين يطالب الصاوي بالحفاظ على ما يسمي "النقاء"، فإنه لا يفعل سوى إعادة إنتاج وهم الطهرانية السياسية التي حذّر منها فرانز فانون حين قال مايعني: "الثورة ليست نقاشاً في الصالونات بل فعل يغيّر شروط الحياة." فالتاريخ يعلمنا أن التحولات الكبرى لا تُصنع بالانكفاء على المثاليات، بل بالقدرة على بناء تحالفات عابرة للتناقضات من أجل تحقيق الأهداف الجوهرية. - نيلسون مانديلا تحالف مع الجيش الأبيض في جنوب أفريقيا لإنجاز الانتقال نحو المساواة، من دون أن يتنازل عن مبدأ إنهاء الفصل العنصري. - الجبهة الوطنية للتحرير في الجزائر جمعت قوى متناقضة سياسياً واجتماعياً لكنها التقت على هدف التحرير من الاستعمار. - في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، جلست قوى قومية ويسارية وليبرالية على طاولة واحدة لتؤسس لسلام دائم على أساس الديمقراطية وحقوق الإنسان. - حتى لينين نفسه أدرك ضرورة التحالف مع الفلاحين رغم الفوارق الطبقية، لأن الثورة لا تتحقق بالمثالية الطهرانية بل بالفعل التاريخي. وعليه، فإنّ ما يعيبه الصاوي على تحالف "تأسيس" ليس خروجاً على منطق التاريخ، بل هو تجسيد له. أما الطهرانية التي يروّج لها فليست سوى ذريعة جديدة للجمود، ووسيلة للنخب كي تبقى في مقاعد المتفرجين بينما الآخرون يخوضون معركة التغيير.
٤/ أين هي "القوى الديمقراطية السودانية"؟ يقول الأستاذ الصاوي إن الحركة الشعبية فقدت حلفاءها الديمقراطيين. لكن عن أي ديمقراطية يتحدث؟ الديمقراطية لا تُبنى في فراغ، ولا تقوم إلا على أساس العلمانية والمواطنة المتساوية. هذه ليست رفاهية فكرية بل حقيقة أكدها تاريخ الفكر السياسي منذ جون لوك ومونتسكيو وحتى جون رولز، وأثبتتها التجارب الكبرى من الثورة الفرنسية التي ربطت الحرية بالمساواة أمام القانون، إلى النضال الأميركي من أجل الحقوق المدنية الذي حطم أوهام "ديمقراطية البيض" ليؤكد أن الديمقراطية بلا مساواة ليست سوى قشرة زائفة للاستبداد. أما ما يُسمّى في السودان بـ"القوى الديمقراطية"، فهي في واقع الأمر قوى متماهية مع الإسلاميين، ترتعد من مجرد لفظ كلمة العلمانية، وتتعامل مع المساواة كأنها بند قابل للتفاوض في "مؤتمر دستوري"! أي عبث هذا؟ الديمقراطية بلا مساواة أشبه برياضة بلا قواعد، أو طب بلا علم. إنها هراء سياسي يتوسل أسماء كبرى ليمرر الهيمنة القديمة. والأدهى من ذلك أنّ الكثير من هذه القوى نفسها تتحالف اليوم مع البرهان ونظام بورتسودان او تصمت عليه، سلطة بوتسودان التي انتجت "وثيقة دستورية" تُكرّس حكم الفرد، تشرعن وتقبل بقوانين عنصرية من شاكلة "الوجوه الغريبة"، وتستبيح طرد المهمشين من مدن السودان التي تحت سيطرة الجيش، وهدم منازلهم على أساس الهوية. فأي ديمقراطية هذه التي تبرر الفصل والعنصرية باسم "الاعتدال" أو "الواقعية السياسية"؟ الحقيقة أن ما يسمى بـ"القوى الديمقراطية" في هذا الوقت ليس سوى الحارس الأمين للسودان القديم، تسمي نفسها ديمقراطية بينما هي في العمق ضامن لاستمرار الامتيازات القديمة. والسؤال هنا ليس: هل فقدت الحركة الشعبية حلفاءها الديمقراطيين؟ بل: هل وُجدت في السودان قوى ديمقراطية حقيقية أصلاً؟
٥/ التغيير الكبير يحتاج قرارات كبيرة: ما يجري في السودان اليوم ليس مناسبة لترف المثاقفة ولا مجالاً للتنظير البارد، بل هو تحول تاريخي جذري تُختبر فيه شجاعة القادة وصدق المثقفين. في لحظة كهذه، لا يُقاس الموقف بالثرثرة ولا بالتحفظ، بل بالقدرة على اتخاذ قرارات كبرى توازي حجم المأساة. لقد وضعت الحركة الشعبية وحلفاؤها أسساً لا تقبل المساومة: العلمانية كضمانة للمواطنة المتساوية، العدالة التاريخية لإنصاف الضحايا ومنع تكرار المظالم، اللامركزية لتفكيك احتكار السلطة، والحق في تقرير المصير باعتباره جوهر الحرية. هذه المبادئ ليست شعارات، بل حدود دنيا لأي حوار أو مشروع سياسي جاد. وبتبني هذه المبادئ بوضوح، تجاوزت الحركة الشعبية كل القوى السياسية السودانية التي تزعم الديمقراطية لكنها تخشى حتى الاعتراف بالعلمانية. لقد سبقتها عملياً وأخلاقياً، وجعلت منها – بسلوكها المتردد – خصماً لا للديمقراطية فحسب، بل لأهم قيمها: المساواة في المواطنة. وهنا يكمن التفوق الأخلاقي والواقعي للحركة الشعبية؛ فهي لم تنتظر إذناً من أحد لتعلن المبادئ المؤسسة للدولة الحديثة، بل فرضتها كشرط فوق دستوري. هذه المفارقة ليست جديدة على التاريخ. ففي الولايات المتحدة، بعد الحرب الأهلية، تلكأت المؤسسات السياسية "الديمقراطية" في الجنوب والشمال على حد سواء، وقبلت بترتيبات عنصرية مثل قوانين جيم كرو التي كرست الفصل والتمييز. لكنّ الحركات الحقوقية في منتصف القرن العشرين – بقيادة أمثال مارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس وغيرهم – هي التي وضعت الديمقراطية الأميركية أمام امتحانها الحقيقي، وأجبرت الدولة على الاعتراف بأن الديمقراطية بلا مساواة ليست سوى قشرة زائفة. وهكذا، تجاوزت حركات الميدان المؤسسات الرسمية، وصارت هي الحامل الأخلاقي لمعنى الديمقراطية. وبالمثل، في السودان، الحركة الشعبية وحلفاؤها اليوم هم من يرفعون لواء المبادئ التأسيسية بوضوح، بينما تتخلف القوى التي تزعم الديمقراطية عن اللحظة، متواطئة مع خوفها التاريخي من الإسلاميين، ومعيدة إنتاج السودان القديم. أما الذين يكتفون بالنقد من مقاعد المتفرجين، من دون أن يقدّموا بديلاً عملياً، فلا يفعلون سوى تزيين العجز وإعادة إنتاج الوهم. في المقابل، من ينخرطون بالفعل السياسي الثوري ويتخذون قرارات شجاعة هم الذين يتحملون عبء التغيير ويفتحون الطريق أمام السودان الجديد. وكما قال ليون تروتسكي: "أعظم الجُبن هو أن ترفض الانخراط في المعركة لأن ظروفها ليست مثالية."
أخيرا، ما يغفل عنه الأستاذ الصاوي، كما غفل عنه قبله جيل كامل من النخب السودانية الفاشلة، هو أن الشعوب التي ذاقت الحرية لا تعود أدراجها. فـهيغل نفسه أشار إلى أن الحرية، حين تُختبر، تصبح "جوهر الوعي الذاتي"، لا يمكن انتزاعها. والتاريخ الأميركي الإفريقي أثبت أن كل محاولة لشراء صمت الأحرار بالتسويات انهارت أمام صلابة المطالبة بالمساواة. إنّ من المعيب أن يظل مثقفونا في برجهم العاجي يوبّخون الآخرين لأنهم تجرؤوا على خوض المعركة، بينما هم يكتفون بالانتقاد من بعيد. لقد ضحّى المهمشون لعقود، ودفعوا الدم والتهجير، فيما ظلت النخب تنتظر وطناً مصمّماً على مقاسها. فلنقلها بوضوح: السودان الجديد لن يُبنى بتأملات الصاوي ولا بخطابات الطهرانية، بل بالفعل الثوري والشجاعة التاريخية.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والاليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة