نهضت إثيوبيا لأنها تجاوزت مرحلة الدكتاتورية العسكرية القابضة، ثم عبرت مرحلة الحرب الأهلية القاسية، على الجسر الموصل للفدرالية والديمقراطية والحكم المدني، فالشعوب الدائس على رؤوسها حذاء العسكر (ونحن منها)، لن تستنشق رحيق الحرية والحكم الرشيد، إلّا بعد التحرر الكامل من العسكر، لقد عانى الإثيوبيون الأمرين حينما كان السفاح منقستو هايلي ميريام متحكم على الرقاب والبلاد، بعد أن قتل الإمبراطور هيلا سيلاسي وأحال الإمبراطورية إلى نظام عسكري بوليسي متجبر شهد أبشع الجرائم، فقد قتل هذا الدكتاتور الماركسي ما يفوق المليون ونصف المليون إثيوبي، حتى اجتاحته ثورة الشعب الواحد قبل الانفصال – الجبهة الديمقراطية الثورية لشعب اثيوبيا وجبهة تحرير شعب تيغراي، في سيرورة تاريخية حتمية مرت بها جميع الشعوب الافريقية، والسودان ليس استثناء من هذا القدر التاريخي، فاليوم تخوض القوى الثورية السودانية معارك طاحنة ضد دكتاتورية الجيش السوداني المتحوّل، منذ أول انقلاب قاده الفريق إبراهيم عبود، فإثيوبيا التي كانت فقيرة وهجرها سكانها إلى دول الجوار لأجل لقمة العيش، مثلما هو حالنا نحن السودانيين اليوم، بدأت التعافي مع وصول طالب الطب ملس زيناوي إلى رئاسة حكومتها، الطالب العبقري الذي ترك مقاعد الدراسة والتحق بجبهات القتال، من أجل تحرير بلاده من ربقة الطاغية، ومعه رفاقه الذين أدركوا أن بلادهم لا تستحق أن يقودها قاتل حقود. إنّ أكثر ما أحزن رئيس حكومة اثيوبيا الحديثة بعد التحرير – ملس زيناوي، هو عدم استفادة المزارعين من هطول الأمطار الغزيرة على الهضبة الإثيوبية، فقال قولته الشهيرة: (اذهب إلى مدينة (بحر دار) قف على بحيرة (تانا) ،ثم اشرح لي كيف يمكن لزعيمٍ إثيوبي أن يرى نهراً عظيماً كالنيل ينزع في كل موسمٍ جزءاً حميماً من روح بلاده ماءً وتراباً وطمياً دون أن تستفيد بقطرة واحدة)، ومن تلك المقولة الملهمة نبتت أول لبنة من لبنات بناء سد النهضة في العقل قبل أن تنبت من الأرض، على عكس عسكرنا الذين استجلبوا السلاح فدمروا السدود وسمموا المياه، فمن حباه الله بذرة لب عليه أن يعقد المقارنة بين البلدين الشقيقين في عنصر واحد ومهم جداً، ألا وهو كارثية منح العسكر شيكات على بياض، فلعل النهضة الإثيوبية تحرّك في نفوس السودانيين الغيرة الإيجابية لتحسس الحبال والقيود والأغلال التي تكبلهم من اتخاذ الخطوة الأولى – الانخراط في ثورة تحرر حقيقية لا يؤمن قادتها بتوطين سلطة العسكر، فالطريق إلى النهوض الاقتصادي وبناء المشاريع العظيمة عظمة سد النهضة، تبدأ من فك الارتباط بجنرالات العسكر الحاصلين على أكثر من ثمانين بالمائة من موارد الشعب، حسب آخر إحصائية قبل الحرب، الأمر الذي أدى لتضخم الذات العسكرية، ومن ثم اشعال الحرب من طرف واحد رفضاً لتيار التغيير الشعبي الذي وكما أسلفنا، هو المحطة القدرية التي لا فكاك منها، ومكتوب على كل الشعوب المشي في دروبها خطىً كتبت عليهم، ومن كتبت عليه خطىً مشاها. إنّ أقوى تحدٍ اجتاز امتحانه الإثيوبيون هو إدارة التنوع وقبول الآخر والاعتراف بالاختلاف دستوراً، لا تنظيراً كما هو حال طبقتنا السياسية المترفة فكرياً، لقد ضمن دستور دولة إثيوبيا الفدرالية حق الوحدة الطوعية لأقاليمها تحت مظلة اتحادها الفدرالي، ولم ترغم إقليماً على وحدة جبرية مثلما فعلت الفدرالية الكذوب اللعوب التي خدعنا بها العسكريان البشير والبرهان، وأهم من كل ذلك اعتداد المواطنة الإثيوبية والمواطن الإثيوبي بالهوية الوطنية، لقد عرفناهم عن قرب ولمسنا تلك الروح الوطنية التي لا تتيح لكائن من كان أن تؤتى إثيوبيا من خلالها، والملاحظ أن الحرب الأهلية رغم مرارتها لم تكسر عزيمة هذه الهوية، على العكس من ذلك تماماً حين تلقي بالنظر على المجال السوداني، لقد أسست فرق الإبهاج والإضحاك لتفتيت هذا العزم، ووجه الإعلام لترسيخ أسس الاختلاف لا الائتلاف، فانحازت الأغنية الشعبية والرقصة التراثية لجهة وتركت الجهات الأخرى، بينما احتفلت اثيوبيا يوم أمس في انسجام تام أمام لوحة بنفسج ألوان التيقراي والأورومو والأمهرا والقوراقي والعفر، بينما نحن نردد مع أبو السيد (ارتدي اللون البنفسج اعتلي شكل الهوية)، وهذا ما حدث فعلاً، لقد اعتلينا ظهر هويتنا وأوسعناها ضرباً مبرحاً حتى تشظى الوطن، فهل يستفد السودانيون من التجربة الإثيوبية؟، أم أنهم سيكابرون كما هي العادة: (نحن من بنى الخليج)، طيب!، من دمّر السودان؟.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة