تواثقنا ثلاثتنا، النور حمد وعبد الله الفكي البشير وأنا، مع معهد الدوحة لدراسة السياسات على جمع شمل ممثلين للطيف السياسي في الدوحة في 2012 في لقاء تفاكري في ما يعرف ب" الحوارات العصية" للتداول حول الأزمة السودانية. وأنشر هنا الورقة المفتاحية لتلك الحوارات.
وقفت عند مسألتين في "فشل" المثقف الموصوف. وهي مسائل زكت لي دائماً بيتاً من ت س إليوت: "لقد عشنا التجربة ولم نعرف معناها". والمسألتان هما فرط الموت الذي ضرج تجربتنا السياسية لما بعد الاستقلال ومنعطف انفصال الجنوب. والمسألتان استحقتا، متى أحسنا فهم معناهما، تحليلاً أو معالجة أفضل مما وقع لنا بفضل غيبة النظر الثقافي. مرت بلادنا بتجربة في الموت مسبوقة ولكنها مرعبة أيضاً. صار الموت صناعتنا الأروج. فقتلى الجنوب في تقدير أقصى مليونان. ولا نطيل. ولم تحرك هذه التجربة مع هذا الموت العصيب ساكن المثقف ليطبع الأمة على استبشاعه. بل ما زال من المجاهدين على الضفتين من يقول هل من مزيد كأن ما مضى من قتل لم يكفنا. فالإنسان من بين كل خلائق الله هو وحده الذي يتهيأ للموت واعياً بنهائيته. فهو يستعد له بالطمع في الذكر الحسن مثلاً. وقد يستعد له استعداداً مضاداً بأن يرفض أن يموت. ولم نحصل بعد على هذا الوعي بالموت المضاد الذي هو شغل الثقافة. فصارت إحصائيات القتلي دليلاً على عدالة القضية ونعقبها "أعرس الشهيد". وقفت في النظر المقارن إلى كيف خرجت أمريكا الحديثة من حقول موتى الحرب الأهلية (1860-1865) بكتاب ذكي للمؤرخة درو قبلين فاوست عنوانه "جمهورية العذابات هذه" (2009). وحرب أمريكا تلك حرب أشد فظاعة من كل حرب. مات فيها 620 ألف أي 6 مليون أمريكي متى وقعت تلك الحرب اليوم. نظر الكتاب في كيف صارت الولايات المتحدة بفضل الحرب الأهلية مجتمعاً آخراً وثقافة مختلفة. ومع ذلك فخطر تلك الحرب أشد من تقسيم الأمة أو إنهاء الرق أو كسب الحرب التي تطرأ على الذهن متى ذكرناها. لقد استبد بالأمريكيين ما هو أكثر زلزلة وهو كيف ينبغي للحياة أن تنتهي. فقد صار عليهم أن يكملوا سرديات حياة موتى الحرب غير التامة ويضمنوها المغازي التي أرادوها. كان عليهم أن يُعَينوا الوسائل والآليات ويتفننوا فيها لإدارة شأن أكثر من نصف مليون ضحية أخرس الموت بقية سردهم. فلم يعودوا آباء وإخوانا وأبناء بل جثامين كثيرها بغير مثو أخير معروف يزار. وصار الموتى بفعل التوقير والتذكير هم من أراد له لهم الأحياء أن يكونوا. وأكثر هذه الشفافية للنظر الأمريكي للموت والحياة من شغل مثقفي الأمة الأمريكية مثل هيرمان مليفيل وأمبروز بيرس وولت ويتمان المعروف. فنظروا لأبعد من الموت إلى حياة الأمة التي لم تعد كما تعارفوا عليها قبل شيوع ذلك التفاني في الحرب. خرج أولئك المثقفون لإبراء الجرح الوطني النازف. فوصف أمبروز بيرس قتلى الحرب من الجانبين ب"الموتى الأبرياء" في الرد على من أصر بأن بينهم الصالح والطالح. ولذا قال ويتمان: الموتي، الموتي موتانا، أو الجنوب أو الشمال، كلهم مننا (كلهم كلهم كلهم) أعزاء عندي في خاتمة المطاف". وأدهشني ويتمان الذي عرفنا ثوريته وإنسانيته ولم نعرف مصدراً مهماً لهما. لقد كان الشاعر شاهداً على الموت الجزيل بالمستشفى العسكري بواشنطون. فهو جاء يوماً يسأل عن أخيه جورج بعد نبأ إصابته في الحرب. ولم تكن الإصابة بالغة. ولكنه لم يترك المستشفى من يومها حاضراً عند "خراج روح" قتلى أمريكا الفدرالية التي كان يعتقد بعقيدتها في تحرير الرقيق. كان ذلك الحضور ما أملاه على ويتمان محبته لأخيه. فلم يكن طبيباً بل كان شغله المواساة. كان يُقسم على المرضى ما يقع بيده من الطعام والملبس حتى الظروف التي عليها طوابع ليكتب الجرحي الرسائل لأهلهم. وكتب هو نيابة عن بعضهم بمعدل 12 في اليوم. كتب مثلاً لأسرة ما عن موت أبنها بعاطفة وشجاعة قائلاً: كان على أتم عزيمة للموت. كان متوكلاً للحد البعيد. أنا لا أعرف عن حياته قبل الموت شيئاً ولكني أشعر أنه عاش حياة جميلة ومشبعة". ولم يكن ويتمان متديناً بمعنى، ولكنه ضمّن رسائله لأهل الميت آيات الإنجيل لأنها، طالما آمنوا هم، لا هو، بقضاء الله وقدره، روضهم على قبول ما ليس منه بد. وجاء في ديوانه بعض هذه التغذية المسيحية مثل قصيدة يتصور نزول الخبر الفادح على أسرة في فيافي ولاية أوهايو. ودخل الموت الفادح للحرب الأهلية في إدارة الدولة. فتوسع نظامها الفدرالي (على حساب الولائي) ليعني بالمقابر القومية ومعاشات الضحايا وقدامى المحاربين. وبفضل الحرب الأهلية ما تزال جثة كل من مات محارباً في سبيل أمريكا في ذمة الدولة حتى تستعيدها متى خفيت. ولهم في ذلك إدارات مستقرة تقضي العمر تبحث عن الموتى بلا أكفان.
لاغلاط أننا توصلنا طواعية، وبعد لأي، لحق تقرير المصير للجنوب ثم استهولنا نتيجته وصار عيباً يلاحق من قام به إلى الأبد. فلما لم يستظل الحق بالثقافة صار عظمة نزاع بين السياسيين وغاب مغزاه كممارسة غراء لحرية أجمعنا عليها. وهذه اللجلجة مضرب المثل في التنصل عن معنى التجربة. ومن المؤسف أن ننحدر بمبدأ عظيم في الحرية إلى هذا الدرك. فنشأ المبدأ كما هو معلوم في أفئدة عظيمة. دعا له الرئيس ودرو ويلسون وفلاديمير إيلتش لينين وألهم حركة التحرر الوطني. ولكنه أٌهمل وسقط في شقوق السياسات القومية المتسلطة في دولة ما بعد الاستعمار. فقررت منظمة الوحدة الأفريقية نهاية حق تقرير المصير بتحرر المستعمرات من القوى الأوربية التي حكمتها. وصارت حدود تلك الأوطان الجديدة مقدسة. لم يستو مبدأ تقرير المصير فينا لأن صفوتنا نظرت إليه كممارسة "حلال" في التسييس و"حرام" في السياسة. وكرهه الناس كما يكرهون الطلاق في الزواج ولذا غلبت في خطابنا عنه الآية القرانية (أمسِكوهُن بمعروف أو سرِحوهُن بمعروف (2:231) لو كان مثقفنا يأخذ ذمته الفكرية بجد لنظر نظراً مقارناً لتقرير المصير ولم يستشومه. فقد مر زمن على الإنسانية كان فيه انفراط دولة ناشزة سمةُ للعقل والشجاعة. وقد أطرى ألكس توكفيل، مؤلف كتاب "الديمقراطية في أمريكا" (1835)، أمريكا تلك المأثرة. فلم ينفعل ببسالة الأمريكيين المعروفة في تحرير بلدهم من البريطانيين في 1778 بقدر انفعاله بإعادتهم التفاوض في مصائر وطنهم الذي تفرق شيعاً في المؤتمر الدستوري بفلادلفيا عام 1786 والذي بنوا فيه "اتحاداً ناجزاً" كما نرى. ولم ينتاب حظ الأمريكيين السودانيين بالحصول على توكفيل"هم" ليثني على بعد نظرهم السياسي. خلافاً ذلك وطأهم الناس بمنسم وعيروهم كشعب فاشل.
من تَصَفح تاريخ سودان ما بعد الاستعمار سيعرف لماذا كنا في السودان البادئين بمخاطرة تقرير المصير. فالسودان اشتغل بعملية تصفية الاستعمار كما لم تنشغل دولة أخرى به.
ومتى أحسنا قراءة حق تقرير المصير السوداني سنجد أنه تتويج للمساعي المعقدة لشعوب سودانية عظيمة لم تقبل بالدنية في مواطنتها وسهرت على أشواقها لوطن عادل وسوي. وبذلت تضحيات نادرة وطويلة. وهذا استثمار في الحرية يغيب عن علوم السياسة التي توقفت بنازع الحرية عند حركة التحرر من الاستعمار. وأصبح النضال للحق والحرية، الذي أعقب الاستعمار، مما يثير ريب علمائها ممن نظروا له من باب الفتنة والفوضى. صار السودان من جراء ذلك كله بين نارين. فهو موصوف بأنه دولة فاشلة ستتفرق أيدي سبأ. فهو عندهم قد "نجح" في اجتياز كل معاييرهم للفشل المزري. وهو من الجهة الأخرى ملعون من علماء السياسة إذا تفادى فشله وتفرقه باستفتاء جماعاته المظلومة حول مصائرها. فتقرير المصير عندهم فيروس سيغزو جسد أمم أفريقيا وغيرها ويعديها. والعيب في علماء السياسة لا السودانيين الذين اضطروا إلى ما ليس منه بد من فوق طريق طويل للآلام للحرية. فعلماء السياسة ما يزالون يتداولون في فض الدولة-الأمة بمصطلح النكاح. فالطلاق خيبة وخراب عمار وضيعة أطفال. وسينتطر السودانيون توكفيل"هم" الذس سيميز تبنبهم إعادة التفاوض في بلدهم وتقرير المصير كتحليق شجاع على ذرى الحرية.
وهذا لقاء للبحث عن معنى التجربة السياسية التي ضرستنا باسنانها. ولن يتم ذلك إلا بتزيل رشيق للثقافة على الممارسة السياسة. وهذا رهين باسترداد الحوار الوطني فوق منابره المشروعة يخوض غماره مثقفون يتفيأون ظل الزمالة حفيون بالاختلاف أشداء على الحقيقة"رحماء بينهم"
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة