كأن التاريخ تنفس من جديد، وكأن الذاكرة خرجت من صمتها لتصافح الحاضر بحنين لا يخبو. إثيوبيا، الجارة التي لم تكن يوما بعيدة عن وجداننا، تعلن للعالم أنها لا تزال وفية لجوهرها: أرض لا يُظلم فيها أحد، كما قال النبي الكريم، حين أرسل إليها المستضعفين في أول هجرة للحرية. واليوم، بعد قرون من ذلك اللجوء النبيل، تُثبت إثيوبيا أنها لم تخن العهد، ولم تبدل الوصل، حين إفتتحت يوم أمس سد النهضة، لا كجدار من حجر، بل كقصيدة من إرادة، وكجسر نحو السيادة والتنمية والكرامة. هذا الإنجاز، الذي لا يُقاس بمقاييس الهندسة وحدها، بل يُقاس بمدى قدرة الشعوب على الحلم رغم العواصف، وعلى البناء رغم الحصار، وعلى أن تقول "نحن هنا" في وجه من أراد لها أن تظل على هامش التاريخ. سد النهضة هو إعلانٌ شعريٌّ بأن إفريقيا لا تزال تنبض، وأنها قادرة على أن تكتب فصلاً جديداً، لا بالحبر المستورد، بل بمدادها الخاص، وبصوتها الحر. وفي لحظة أخرى من الوفاء، وقفت إثيوبيا إلى جانب السودان، حين كان الدم يُراق، والحلم يُختطف، والميدان يُغلق. جاء رئيس الوزراء آبي أحمد، لا بصفته زائراً، بل بصفته أخاً يحمل في قلبه ما يحمله السودانيون في صدورهم: توقاً للحرية، ورفضا للظلم، وإيمانا بأن الشعوب لا تُهزم إذا تمسّكت بالحق. فكانت مبادرته السياسية امتداداً لروح النجاشي، وكانت كلماته جسرا بين التاريخ والراهن، بين الجرح والأمل. وفي لحظة التوقيع، حين خفّت الأصوات وإرتجفت القلوب، ذرف المبعوث الإثيوبي محمود درير دموعا صادقة، أمام عدسات العالم، في مشهدٍ سيظل محفوراً في وجدان السودانيين. لم تكن دموعاً دبلوماسية، بل كانت دموعا من القلب، من الذاكرة، من الإيمان بأن الثورة ليست حدثا عابرا، بل لحظة إنسانية تستحق أن يُبكى لها، ويُحتفى بها، ويُحفظ لها الوفاء. هكذا، تلتقي إثيوبيا والسودان في لحظة نادرة، لا على طاولة المصالح، بل على مائدة القيم. كلاهما إختار طريقا صعبا: طريق الحرية، طريق التعددية، طريق بناء الدولة على أساس الكرامة لا القهر، وعلى أساس العدالة لا الإمتياز. وفي محيطٍ غارق في الإستبداد، يرفعان معا راية الأمل، ويُبشران بأن إفريقيا، حين تنهض، تنهض كلها، لا جزءا منها فقط. مبروك إثيوبيا، ومبروك للسودان، ومبروك لكل من آمن أن النهضة لا تُستورد، بل تُصنع من وجع الشعوب، ومن حلمها، ومن قدرتها على تحويل الألم إلى بناء، والدموع إلى نور، والتاريخ إلى مستقبل.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة