منذ أن وُجد الإعلام المرئي، ظلّت الصورة أقوى من الكلمة، قادرة على اختراق الحواجز اللغوية والثقافية، لتخاطب الوجدان مباشرة وتستقر في اللاشعور الجمعي. ولعل الحرب الإسرائيلية على غزة جعلت هذه الحقيقة أكثر وضوحاً من أي وقت مضى. فقد تحوّلت الصورة التلفزيونية إلى سلاحٍ موازٍ للمقاومة، هزّت عرش الدعاية الصهيونية وكشفت هشاشة الخطاب الرسمي الإسرائيلي أمام العالم بأسره.
لكن، بينما كانت الكاميرات تفضح المجازر المروعة، كانت إسرائيل تمارس حرباً موازية لا تقل شراسة: استهداف الصحفيين وقتلهم بدم بارد. إن ملاحقة حامل الكاميرا هي في حقيقتها ملاحقة للحقيقة ذاتها.
الأرقام صادمة إلى حد لا يمكن معه التذرع بالصدفة أو الأخطاء الميدانية. وفق لجنة حماية الصحفيين (CPJ)، – وهي منظمة دولية مستقلة تأسست عام 1981 في نيويورك للدفاع عن حرية الصحافة وحماية الإعلاميين في مختلف أنحاء العالم – تتحمل إسرائيل وحدها مسؤولية 85 من أصل 124 عملية قتل للصحفيين حول العالم في عام 2024، أي ما يقارب 70%. هذا الرقم ليس مجرد إحصائية، بل هو وصمة عار تسجلها المنظمة على دولة واحدة، لتكون الأعلى في التاريخ منذ بدأت اللجنة توثيق الانتهاكات قبل أكثر من ثلاثة عقود.
وإذا نظرنا بشكل أوسع، نجد أن حرب غزة منذ بدايتها حتى اليوم تُعدّ المرحلة الأكثر دموية للصحفيين في التاريخ الحديث. فقد وثّقت CPJ مقتل ما يزيد عن 186 صحفياً وإعلامياً. نقابة الصحفيين الفلسطينيين أشارت بدورها إلى أعداد مشابهة، فيما أكدت قناة الجزيرة أن 107 صحفيين قُتلوا، بينهم 100 فلسطيني. ومع هذه الأرقام غير المسبوقة، تتضح حقيقة أن إسرائيل تقود حرب إبادة ممنهجة ضد الإعلاميين.
الم تقتصر الغارات على جبهات القتال، بل طالت منازل الصحفيين وعائلاتهم، رغم ارتدائهم سترات واضحة تحمل عبارة “Press”. أكثر من تحقيق مستقل أكد أن عدداً من الصحفيين استُهدفوا بشكل مباشر، ما يجعل من هذه الجرائم سياسة متعمدة لا مجرد “أضرار جانبية”.
لم يكن العالم بحاجة إلى خطابات السياسيين ليفهم بشاعة ما يجري. الصور المباشرة القادمة من غزة كانت أبلغ شهادة. فقد نقلت للمشاهدين عبر الشاشات مشاهد الدمار والقتل، لكنها نقلت أيضاً ارتباك قادة الاحتلال أنفسهم، وظهور وزير دفاعهم مرتجف الفرائص، في صورة فاضحة لضعفٍ داخلي حاولوا ستره بدماء الأبرياء.
هذه الصور، بكل صدقها وعفويتها، أسقطت الرواية الإسرائيلية التي حاولت تسويق الحرب على غزة باعتبارها “حرباً بين الحضارة والبربرية”. بل أثبتت الصورة العكس: أن المحتل هو البربري، وأن الضحية الفلسطينية هي صاحبة الحق والكرامة.
لقد حلّت قوة النقل المباشر محل “الهوليوديات” المزيفة. لم تعد الإثارة البصرية المعلبة في مصانع السينما الأمريكية قادرة على منافسة المشهد الحيّ المنقول عبر الأقمار الصناعية. هنا تكمن خطورة الصورة: إنها لا تمنح المشاهد فرصة للتأويل المضلل، بل تضعه وجهاً لوجه أمام الحقيقة.
العين ترى أكثر من 75% مما يدركه الإنسان يومياً. وعندما تُضاف إلى ذلك مؤثرات الصوت والحركة التي يحملها التلفزيون، يصبح الأثر النفسي ساحقاً. الصورة لا تُقرأ، بل تُعاش. حتى بعد انطفاء الشاشة، تبقى مطبوعة في الذاكرة، يعيد المشاهد استحضارها ذهنياً، فيستمر وقعها بالتأثير.
في غزة تحديداً، لم تجد الكاميرا عناءً في نقل الحقيقة. لم يكن هناك مجال للتجميل أو التلاعب. كانت الحقيقة فاضحة أكثر من أن تُخفى: أطفال تحت الركام، أمهات يبكين، رجال يحملون جثامين أبنائهم. وهكذا تحولت الكاميرا من مجرد أداة رصد إلى فاعل مباشر في صناعة الوعي الجمعي العالمي، وحصن ضد الدعاية السوداء التي يبثها الإعلام الإسرائيلي.
لم يكن تأثير الصورة وحدها كافياً، بل جاء الصوت المقاوم ليضاعف وقعها. فقد تحوّل المتحدث باسم المقاومة الفلسطينية، أبو عبيدة، إلى رمز إعلامي بحد ذاته. خطاباته القصيرة، المقتضبة، المحمّلة بالثقة والوعيد، أصابت الداخل الإسرائيلي بالارتباك وأثارت جدلاً واسعاً في مؤسساته السياسية والعسكرية. كان حضوره عبر الشاشة مكملاً للصورة القادمة من الميدان: صورة مقاومة صامدة تقابلها قوة محتلة مأزومة.
محاولات إسرائيل العديدة لاستهدافه جسدياً أو إسكات صوته الإعلامي لم تكن مجرد مطاردة لشخص، بل محاولة يائسة لإخماد تأثير رمزي تجاوز حدود غزة. فخطاباته لم تُسمع فقط في شوارع فلسطين، بل في كل بيت عربي، بل وحتى داخل الرأي العام العالمي الذي بدأ ينظر إلى الرواية الإسرائيلية بعين الشك.
غير أن المأساة لا تتوقف عند حدود الجريمة الإسرائيلية. فالصمت الدولي – وأحياناً الدعم العلني أو الخفي – هو جريمة موازية. الحكومات الغربية التي طالما تغنّت بحرية الصحافة وحقوق الإنسان، انكشفت على حقيقتها: ترفع الشعارات في وجه خصومها، لكنها تسقطها فوراً أمام إسرائيل. لقد تحوّل صمتها إلى تواطؤ أخلاقي، بل إلى شراكة في الجريمة، ما دامت تواصل مدّ الاحتلال بالسلاح والمال والتغطية السياسية.
إن التواطؤ بالصمت لا يقل خطورة عن الضغط على الزناد. الدعم العسكري والسياسي والمالي لإسرائيل جعل من جرائمها ضد الصحفيين وضد الصوت المقاوم جزءاً من مسؤولية دولية أشمل. هنا يجب أن يُوجّه اللوم لا إلى القاتل وحده، بل إلى كل من منحه السلاح والغطاء والشرعية.
في نهاية المطاف، قد ينجح الرصاص في إسكات صحفي أو تدمير كاميرا أو حتى محاولة اغتيال متحدث مقاوم، لكنه لن يقتل الصورة ولا يمحو الصوت. فكل مشهد خرج من غزة وكل كلمة صدحت بها المقاومة صار وثيقة للتاريخ، عصيّة على المحو، شاهدة على جريمة لن تُمحى من الذاكرة الإنسانية.
لقد حاولت إسرائيل فرض تعتيم إعلامي عبر قتل من ينقلون الحقيقة ومطاردة من ينطقون بها، لكنها لم تفلح. بل على العكس، تحوّلت الصورة والخطاب معاً إلى محكمة علنية، فضحت الاحتلال، وأظهرت للعالم أن هذا الكيان الذي يدّعي القوة لم يعد يخشى شيئاً قدر خشيته من الحقيقة المجرّدة.
إن استهداف الصحفيين والمتحدثين المقاومين ليس سوى محاولة يائسة لإطفاء عين العالم وأذنه، لكن ما جرى أثبت أن جبروت الإعلام قد جعل من الصحافة وخطاب المقاومة خط الدفاع الأول عن الحق الفلسطيني.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة