هل تستطيع أحزاب النخب ومنظمات مجتمعهم المدني هزيمة الإخوان المسلمين؟ كتبه خالد كودي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 09-11-2025, 11:36 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-07-2025, 11:27 AM

خالد كودي
<aخالد كودي
تاريخ التسجيل: 01-01-2022
مجموع المشاركات: 139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
هل تستطيع أحزاب النخب ومنظمات مجتمعهم المدني هزيمة الإخوان المسلمين؟ كتبه خالد كودي

    11:27 AM September, 07 2025

    سودانيز اون لاين
    خالد كودي-USA
    مكتبتى
    رابط مختصر




    هل تستطيع أحزاب النخب ومنظمات مجتمعهم المدني هزيمة الإخوان المسلمين؟

    6/9/2025 ، بوسطن

    إنّ السؤال لا يقتصر على مقارنة مباشرة بين قوتين سياسيتين في السودان – النخب المدنية من جهة، وتنظيم الإخوان المسلمين من جهة أخرى – بل يتجاوز ذلك إلى كونه سؤالًا وجوديًا يتعلّق بطبيعة الصراع نفسه، وبمدى إدراك هذه النخب لحقيقة الخطر الذي تمثّله الحركة الإسلامية على المجتمع والدولة معًا. كما يرتبط السؤال بموقع هذه النخب من الدولة الثيوقراطية القائمة، والتي تتدرج في شدتها وفق مستويات انفتاح أفرادها، ومدى التزامهم العقائدي بالتصورات السلفية التي تقوم على التمييز بين المواطنين على أساس الدين والنوع والإثنية. ذلك أنّ التراث الإسلامي التقليدي، كما وظّفته الحركات الإسلامية، أسّس لمنظومة تفرّق بين الناس في الحقوق والواجبات، وهو ما جعل هذه النخب عاجزة عن طرح بديل جامع.
    وعليه، فإنّ الإجابة بالنفي القاطع: لا تستطيع هذه النخب هزيمة الإخوان المسلمين، ولو تُركت لقرنين من الزمان. فالمسألة لا تتعلق بقوة الإخوان المسلمين، وإنما أيضًا بخلل بنيوي في النخب نفسها، يتمثل في صلفها وغرورها، وإصرارها على إعادة إنتاج مبادرات قاصرة تحمل في جوفها بذور فشلها، بالإضافة الي تواطؤهم الناعم مع الدولة الدينية. ذلك أنّها لا تُجيب على الأسئلة الجوهرية المرتبطة بطبيعة الدولة الحديثة وشروط المواطنة المتساوية، وهي الأسئلة التي لا يمكن تجاوزها إذا أُريد للسودان أن يخرج من دوامة الصراع.

    أولًا: مأزق النخب السودانية وصلفها التاريخي:
    منذ الاستقلال ظلّت النخب السودانية المركزية – عبر أحزابها السياسية ومنظماتها المدنية في الشمال والوسط النيلي – أسيرة رؤية ضيقة لطبيعة الأزمة الوطنية. فقد تعاملت مع تنظيم الإخوان المسلمين باعتباره خصمًا سياسيًا ينازعها على السلطة، واعتبرت الصراع معه محصورًا في قضايا "التحول الديمقراطي" وحدود الحريات العامة. لكنها لم تدرك أنّ الإخوان المسلمين، في بنيتهم الفكرية والتنظيمية، مشروع فاشي–عنصري مسلح يهدد وجود ملايين المواطنين المختلفين ثقافيًا ودينيًا وإثنيًا. ولهذا انحصرت مقترحاتها في تسويات هشة، ومفاوضات جزئية مشوهه، واتفاقات قصيرة الأمد، مع تجاهل جوهري لقضايا المواطنة، قضايا العلمانية، العدالة التاريخية، واللامركزية والعدالة التاريخية.
    هذا العجز البنيوي يجسد ما سمّاه أنطونيو غرامشي "أزمة القيادة الأخلاقية والفكرية"، حيث تفقد الطبقة المهيمنة قدرتها على إنتاج مشروع وطني جامع. وهو ما ينسجم مع تحليل فرانز فانون في معذبو الأرض حين أكد أنّ البرجوازية الوطنية في المستعمرات السابقة سرعان ما تتحول إلى طبقة وسيطة تعيد إنتاج أدوات المستعمر بدل أن تقود مشروعًا تحرريًا أصيلًا.

    ثورة أكتوبر 1964: بداية إعادة إنتاج الأزمة:
    أطاحت الجماهير بديكتاتورية الفريق إبراهيم عبود، لكن قيادة الثورة انتقلت إلى جبهة الهيئات، التي مثلت في جوهرها قطاعات مهنية ومدنية متحالفة مع الأحزاب التقليدية. ومع أن الشعارات رفعت باسم الحرية، اكتفت النخب بتشكيل حكومة انتقالية قصيرة العمر أعادت حزب الأمة والاتحادي إلى الصدارة. الأسوأ أنها فتحت الباب أمام الإسلاميين لأول مرة عبر وزارة التربية والتعليم (بابكر كرار ثم حسن الترابي وغيرهما لاحقًا)، فبدل أن تُفكك البنية القديمة، منحتها شرعية جديدة.
    انتفاضة أبريل 1985: إعادة إنتاج عبودية المركز:
    أسقطت الجماهير جعفر نميري بعد 16 عامًا من الحكم العسكري، غير أنّ المجلس العسكري الانتقالي بقيادة المشير سوار الذهب حوّل الثورة إلى تسوية شكلية. لم تطرح النخب المدنية مشروعًا لإعادة هيكلة الدولة أو معالجة الحرب الأهلية في الجنوب، بل دفعت نحو انتخابات سريعة أعادت الأحزاب التقليدية والبرجوازية المدنية للسلطة. وهكذا تُركت جذور الأزمة – الدين والدولة، الحرب، التهميش – كما هي، حتى تمكنت الحركة الإسلامية بقيادة الترابي من تنفيذ انقلاب 1989، مستفيدة من هشاشة النظام الديمقراطي الثالث.
    ثورة ديسمبر 2018: التكرار الثالث:
    جسدت ديسمبر أوسع حراك جماهيري في تاريخ السودان الحديث، بتضحيات المهمشين و الشباب والنساء. لكن النخب فشلت في تحويل الثورة إلى مشروع جذري، إذ اختارت الشراكة مع الجيش والإسلاميين السابقين (المجلس العسكري)، وأعادت إنتاج نفس المأزق: إصلاحات شكلية دون المساس بمسألة الجيش، أو علاقة الدين بالدولة، أو العدالة التاريخية لضحايا الحروب والإبادة. النتيجة كانت انقلاب 2021، ثم انفجار الحرب الشاملة في 2023

    دروس من أمريكا اللاتينية وإفريقيا:
    هذا النمط من "ثورات النخب" ليس استثناءً سودانيًا. فقد حذّر "إرنستو تشي غيفارا" من أنّ الثورات التي تقودها نخب المدن غالبًا ما تُضلل الجماهير بوعود الديمقراطية، بينما تُبقي على البنية الاقتصادية والاجتماعية القديمة. أما أميلكار كابرال فقد شدّد على أنّ الثورة لا تنجح إلا إذا تجذرت في قضايا الفلاحين والشعوب الأصيلة، لا في مصالح النخب الوسيطة. وكتب نلسون مانديلا أنّ التغيير الحقيقي لن يتحقق ما لم يُجتث التمييز البنيوي الذي يبقي على فئات من المواطنين في مرتبة دنيا.

    نخلص الي انه من خلال هذه التجارب، يتضح أنّ ثورات أكتوبر وأبريل وديسمبر لم تكن سوى ثورات ناقصة أو مضللة للجماهير. فقد ركّزت على قمة السلطة السياسية دون معالجة جذور الأزمة المتمثلة في غياب العلمانية، وإنكار التعدد، وهيمنة المركز على الهامش. بل إنّ هناك قدرًا من التواطؤ التاريخي بين النخب، والديكتاتوريات، والإسلاميين في التنصل من سؤال المواطنة الكاملة، والتهرب من حسم قضية هوية الدولة. وبهذا ظلت النخب تكرر الفشل، وتغلق الأفق أمام أي تغيير جذري يعالج مآسي الشعوب الأصيلة ويؤسس لدولة حديثة قائمة على العدالة والمساواة.

    ثانيًا: ما يريده الإخوان المسلمون من النخب ومن الآخرين "مواطني الهامش؟"
    يتعامل تنظيم الإخوان المسلمين في السودان مع المجتمع وفق ثنائية صارخة، تعكس بنيته الفكرية وأهدافه الاستراتيجية:
    - من النخب العربية -الإسلامية في الشمال والوسط النيلي:
لا يسعى الإخوان إلى إفناء هذه النخب أو إقصائها كليًا، بل يريدون إخضاعها وإبقائها في دائرة السياسة المروَّضة. مطلبهم الأساسي منها هو الاعتراف بسلطتهم، والتنازل عن بعض الحريات السياسية، وقبولهم كقوة مهيمنة تقود الدولة. بذلك تُستخدم هذه النخب كواجهة مدنية تمنح شرعية شكلية للنظام الإسلامي، فيما تُسلب منها القدرة على الفعل المستقل أو المعارضة الجذرية.
    - من المجتمعات غير العربية وغير المسلمة (دارفور، جبال النوبة، النيل الأزرق، وجنوب السودان سابقًا):
هنا يتبدّى الوجه الاستئصالي للإخوان. فغايتهم ليست الترويض بل الإلغاء الوجودي: سلب الأرض والثروة، محو الهوية الثقافية، وفرض الذوبان في الثقافة العربية الإسلامية بالقوة. ومن يرفض الانصياع، يواجه القتل والإبادة والتهجير الجماعي. هذه السياسة الاستعمارية الداخلية تنسجم مع ما وصفته حنّة أرندت في أصول الشمولية باعتبارها نزعةً نحو "استئصال المختلف وتجريد الإنسان من إنسانيته."

    مقارنات وشواهد عالمية:
    هذا النمط من العنف السياسي–الأيديولوجي ليس معزولًا عن تجارب أخرى في العالم:
    ١/ في إفريقيا، كتب أميلكار كابرال (غينيا–بيساو) أنّ "الاستعمار لا يكتفي باستغلال الثروات، بل يسعى إلى قتل روح الشعب المستعمَر، أي ثقافته وذاكرته". وهو توصيف ينطبق بدقة على ما يسعى إليه الإخوان المسلمين تجاه شعوب دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق.
    ٢/ أما نيلسون مانديلا، فشدّد على أنّ النظام العنصري في جنوب إفريقيا لم يكن يكتفي بحرمان السود من السلطة السياسية، بل كان يريد "تثبيتهم في مرتبة دنيا، بحيث يصبح وجودهم ذاته مشروطًا برضا الأقلية البيضاء". هذا المنطق شبيه بموقف الإسلاميين في السودان من غير العرب وغير المسلمين بمن فيهم الكثير من النخب والا لما اعترضوا علي علمانية الدولة التي تعني المواطنة المتساوية..
    ٣/ في أمريكا اللاتينية، حذّر تشي غيفارا من أنّ "الأنظمة الاستبدادية تتعامل مع المعارضين السياسيين بالمنع والاعتقال، لكنها تتعامل مع الشعوب الأصيلة باعتبارها عقبة يجب اقتلاعها من الأرض"، وهو توصيف يلتقي مع ما فعله الإخوان المسلمين في جبال النوبة والنيل الازرق ودارفور، والجنوب سابقا.
    ٤/ في آسيا، بيّن هو تشي منه أنّ الاستعمار الفرنسي في فيتنام لم يكن مجرد حكم أجنبي، بل "آلة لطمس الهوية الوطنية وإلغاء الذات الجماعية". وبالمثل، يسعى الإخوان في السودان إلى فرض هوية أحادية تُقصي الهويات الإفريقية الأصيلة.

    إذن، بينما يتعامل الإخوان مع النخب العربية–الإسلامية بمنطق الترويض والسيطرة السياسية، فإنهم يتعاملون مع المجتمعات غير العربية وغير المسلمة بمنطق الإبادة والاقتلاع. هذا التناقض في الاستراتيجية يعكس جوهر التنظيم بوصفه مشروعًا فاشيًا استئصاليًا، لا يكتفي بالهيمنة السياسية بل يسعى إلى إعادة صياغة الخريطة السكانية والثقافية للسودان. وهو منطق استعماري داخلي يتطابق مع تجارب الاضطهاد الكبرى في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ويؤكد أنّ أي مقاومة حقيقية له يجب أن تكون جذرية، تستند إلى قطيعة كاملة مع مشروعه الفكري والسياسي وادواته العسكرية.

    ثالثًا: الإخوان المسلمون كتنظيم مسلح وأيديولوجيا ماضوية:
    لم يكن الإخوان المسلمون في السودان مجرد حزب سياسي تقليدي، بل سرعان ما تحولوا منذ ثمانينيات القرن العشرين إلى تنظيم ذي جناح عسكري متكامل. فمع وصولهم إلى السلطة عبر انقلاب 30 يونيو 1989، بادروا إلى تأسيس قوات الدفاع الشعبي (1989) باعتبارها ذراعًا عسكرية موازية للجيش، وظيفتها خوض الحرب الأهلية في جنوب السودان على أسس عقائدية، تحت شعارات "الجهاد" و"الفتح". وقد وثّقت تقارير محلية ودولية ممارسات هذه القوات من تعبئة طلاب الجامعات والتلاميذ، واستخدام خطاب ديني يَعِد بالمغفرة والغنيمة.
    ومع مطلع الألفية، أعاد النظام الإسلاموي إنتاج نفس الأداة في صورة جديدة: سلسلة من المليشيات، هذه السلسلة المتواصلة من التشكيلات العسكرية تثبت أن الإخوان المسلمين لم يتعاملوا مع الدولة كإطار مدني، بل كأداة حرب دائمة ضد مواطنيها.
    أيديولوجيًا، تبنى الإسلاميون خطابًا جهاديًا يعيد إنتاج منطق القرون الوسطى: تقسيم الناس إلى مسلم، كافر، وذمي، وحربي، بما يعني أنّ غير المسلمين إما أن يقبلوا بدفع الجزية، أو يخضعوا للإبادة والاسترقاق. في خطاب قادتهم – مثل حسن الترابي – عودة متكررة إلى "عصر الفتوحات" في القرن السابع الميلادي باعتباره النموذج الأمثل للدولة والمجتمع. وهذا الحنين إلى الماضي لم يكن مجرد اجتهاد فقهي، بل مشروع سياسي لإعادة إنتاج شروط السيطرة بالحديد والنار.
    وإذا قورن هذا النكوص بالمسار التاريخي الأوروبي، نجد مفارقة صارخة: ففي حين تجاوزت أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر هذه الرؤى اللاهوتية عبر عصر النهضة، والكشوف الجغرافية، والثورات العلمية والفكرية (كوبرنيكوس، غاليليو، ديكارت...الخ..)، ظلّ الإسلاميون يتمسكون بالعودة إلى "عصر السلف" كزمن ذهبي متخيل. وكما أشار هيغل، فإنّ التاريخ "لا يعود إلى الوراء"، غير أنّ الإسلاميين السودانيين يحاولون جره قسرًا إلى ماضٍ لم يعد صالحًا، في قطيعة مع حركة التاريخ التي تتجه نحو الحرية والعقلانية.

    رابعًا: طبيعة الخطر تحدد طبيعة المقاومة:
    الخطر الذي يمثله تنظيم الإخوان المسلمين يتجاوز كونه منافسة سياسية مع النخب المركزية؛ فهو خطر وجودي يستهدف ملايين البشر في الهامش السوداني. فالنخب في الشمال والوسط النيلي لم تُقصف بالطائرات، ولم تُحرق قراها، ولم تُهجّر جماعيًا، ولم تتعرض للإبادة الممنهجة كما حدث في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق. لذلك جاءت مقترحاتها للحلول سياسية سطحية، لا تتناسب مع حجم التهديد: "تسويات انتقالية"، "حكومات وفاق"، و"حوارات وطنية" لا تلامس جوهر الأزمة بل تخدم افقهم المشوش.
    في المقابل، يواجه سكان الهامش خطر الابادة والاقتلاع من الأرض: قصف جوي، مليشيات اسلامية، حملات الأرض المحروقة، والإبادة الجماعية الموثقة دوليًا. بينما تصرّ النخب على فرض رؤيتها كأنها المعيار الصحيح، مطالبة الضحايا أنفسهم بقبول حلول لا تضمن لهم البقاء ولا المواطنة المتساوية ولاتعالج جذور مظالمهم. هذا ما يمكن تسميته – على خطى إدوارد سعيد – بـ "الاستشراق الداخلي": أي نظرة النخب المركزية للهامش باعتباره فضاءً تابعًا، فاقدًا للقدرة على المبادرة، لا دور له سوى قبول ما يقرره المركز دون مشاركة حقيقية.
    إنّ مأزق السودان التاريخي لا يتمثل فقط في فشل الدولة في إدارة صراعاتها، بل في عجزها عن إنتاج مفهوم موحّد للذات الوطنية. فمنذ الاستقلال، سعت كل قوة مهيمنة إلى رسم وطن خاص بها:
    - وطن القبيلة والطائفة حيث الولاء للانتماء الأولي لا للدولة؛
    - وطن العسكر الذي يرى السودان ثكنة تُدار بالقوة؛
    - وطن الإسلاميين الذي يختزل الأمة في مشروع ثيوقراطي أحادي؛
    - وطن المركز الذي يتبادل النخب مواقع الهيمنة على السلطة والثروة؛
    - وفي المقابل وطن آخر في الهامش، يقاوم من أجل المواطنة والحقوق المتساوية.
    هذه "الأوطان المتعددة داخل وطن واحد" لم تلتقِ يومًا على قاعدة موضوعية حديثة، لأن النخب التي حكمت فضّلت الحفاظ على امتيازاتها بدل مواجهة الأسئلة التأسيسية. لقد كان الفشل إذًا فشلًا سياسيًا وفلسفيًا وأخلاقيًا في آن واحد: سياسيًا لأنه لم يحقق استقرار الدولة، فلسفيًا لأنه نُفي العقل النقدي واستُخدم الدين كأداة قهر وهيمنة، وأخلاقيًا لأنه حرم ملايين السودانيين من الحق في الحياة والمواطنة والكرامة. ومن ثم، لا يمكن لدولة تُبنى على نفي الاخر، ونفي الحرية، واستغلال الدين، وإنكار التعدد، إلا أن تظل محكومة بالتناقضات الداخلية والانفجارات الدورية، والدليل مانحن فيه اليوم.

    خامسًا: شروط الحل الغائب والممكن:
    إنّ الإصرار المتكرر على إعادة إنتاج مبادرات مصممة على مقاس النخب، وتسويقها للشعب وكأنها حلول موضوعية، ليس سوى شكل من أشكال الاحتيال السياسي. فبدلًا من مواجهة الأسئلة التأسيسية بجرأة، تلجأ هذه النخب إلى استدعاء الأكاديميين، والإعلاميين، وقادة الرأي، بل وحتى بعض المفكرين، تحت ذريعة "إيقاف الحرب"، لتجميل مبادرات عاجزة في جوهرها.
    لكن هذه المبادرات تفتقر إلى الأسس الحقيقية والممكنة لأي مشروع وطني عقلاني، إذ لا تقوم على:
    - العلمانية: كشرط لفصل الدين عن الدولة وحماية التعدد الديني والثقافي
    - الديمقراطية التعددية: التي تضمن مشاركة كل المكونات على قدم المساواة
    - اللامركزية الحقيقية: بما يكفل توزيع السلطات والموارد بعدالة بين الأقاليم
    - العدالة التاريخية: التي تعترف بالضحايا وتعيد النظر في توزيع الثروة والسلطة
    - جيش وطني جديد: بعقيدة مهنية لا تخلط بين الدين والسياسة، ولا يوجّه سلاحه ضد المواطنين
    أي حل لا يتضمن هذه العناصر الجوهرية هو محض "حرث في البحر"، لأنه لا يواجه طبيعة الخطر الذي تمثله الحركة الإسلامية. فالإخوان المسلمون، كما أثبت تاريخهم منذ 1989، لم ولن يتنازلوا عن السلطة طوعًا، ولن يقبلوا بتسويات شكلية. وكما قال كارل ماركس: "الطبقات المهيمنة لا تتنازل عن امتيازاتها إلا تحت ضغط ثوري". وبالقياس على هذا، فإنّ أي وهم بإمكانية انتزاع تنازلات حقيقية من الإسلاميين عبر المبادرات الجزئية لا يعدو كونه تكرارًا لدائرة الفشل، وخيانة للمواطنة في السودان.

    سادسًا: نحو بديل ثوري من الهامش:
    إنّ أي قراءة علمية لتاريخ السودان لا يمكن أن تكتفي بتسجيل الثورات والحروب والانقلابات كوقائع متفرقة، بل يجب النظر إليها كـ معادلة مستحيلة حاولت الجمع بين أضداد لا تلتقي: الدين والسياسة، الهوية والإقصاء، الوطن والغنيمة. وكما قال هيغل: "التاريخ يعلمنا أن الشعوب لا تتعلم من التاريخ"، فإن السودان مطالب اليوم بأن يستخلص العبرة من مآسيه المتكررة.
    الخروج من هذه الدائرة الجهنمية لا يكون بتبديل الحكام أو تبادل مواقع النخب، بل بإعادة تأسيس الدولة على قاعدة واضحة: المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات. فالوطن لا يُبنى على الامتيازات، والحرية ليست نقيض الدولة بل شرط وجودها، والسلام لا يعني الاستسلام بل هو انتصار للعقل واحترام لإرادة الإنسان، والدين – أي دين – ليس أداة قهر وعنف وتمييز، بل قيمة روحية تخص الفرد وعلاقته بما يؤمن به. أما الهوية، فهي ليست جدارًا مغلقًا، بل أفق متحركًا يحتفي بالتعدد ويعترف به. عندها فقط يصبح مسار الدولة الحديثة ممكنًا، ويتوقف التاريخ عن الدوران في الحلقة المفرغة التي كبّلت السودان لعقود.
    ولا يمكن هزيمة الإخوان المسلمين إلا بالاعتراف بثورة الهامش وأهدافها، وبمشروع "السودان الجديد" الذي طرحه الدكتور جون قرنق وواصلته الحركة الشعبية لتحرير السودان، وتجلي الان في تحالف تاسيس. هذا المشروع رسم معالم بديل ثوري حقيقي: دولة علمانية ديمقراطية لامركزية، تقوم على المساواة التامة بين المواطنين، وعلى عدالة تاريخية تعيد توزيع السلطة والثروة وتمنع إعادة إنتاج الامتيازات.
    يقول فرانز فانون مايعني: "البرجوازية الوطنية التي تحكم بعد الاستقلال سرعان ما تتحول إلى عائق أمام التحرر"، وهذا هو حال النخب السودانية التي ظلت حبيسة امتيازاتها. وأكد إدوارد سعيد أن أي مشروع لا ينصت إلى أصوات المهمشين ليس سوى إعادة إنتاج لسلطة المركز. أما نيلسون مانديلا فقال: "الحرية لا تعطى طوعًا، بل تُنتزع من قلب الصراع". وهذه الدروس جميعها تؤكد أن الثورة الحقيقية في السودان لن تأتي من النخب، بل من قوى الهامش التي دفعت الثمن الأكبر.
    وعليه، فإنّ على النخب – إن أرادت البقاء فاعلة في المستقبل – أن تتواضع، وتستمع إلى أصوات الثوار الحقيقيين في الأطراف، وأن تعترف بأن زمنها كطبقة مهيمنة قد انتهى. فكما كتب أنطونيو غرامشي مايعني: "العالم القديم يحتضر، والعالم الجديد يكافح كي يولد؛ والآن هو زمن الوحوش". ولن يخرج السودان من زمن الوحوش إلا بتبني مشروع جذري يؤسس لقطيعة مع الماضي، وبناء وطن جديد على أسس الحرية، والمواطنة، والعدالة.

    في الختام:
    إنّ الإخوان المسلمين في السودان ليسوا حزبًا عاديًا ضمن التعدد السياسي، بل تنظيم فاشي–عنصري مسلح يهدد وجود السودان المتعدد، ويعيد إنتاج منطق الاستئصال باسم الدين. أما النخب السودانية المركزية، فبصلفها ودوغمائيتها، أثبتت عجزها عن مواجهته؛ لأنها تشترك معه في بعض المرتكزات الفكرية، وعلى رأسها الإيمان بالنموذج السلفي الذي يقسم المواطنين وفق الدين والنوع والعرق. هذه النخب لم تُدرك بعد طبيعة الخطر الذي تمثله الحركة الإسلاموية، ولا طبيعة السودان بوصفه وطنًا متعدّدًا لا يمكن أن يُحكم بخطاب أحادي.
    الطريق الوحيد لمواجهة هذا الخطر يتمثل في هزيمة الإخوان المسلمين سياسيًا وعسكريًا، بالتوازي مع تفكيك بنية النخب المتواطئة سياسيًا ومدنيًا، لأنها ظلت دائمًا جزءًا من الأزمة لا مفتاحًا للحل. وحده مشروع تأسيسي جديد يمكن أن يفتح أفقًا مختلفًا: دولة علمانية ديمقراطية لامركزية، تقوم على العدالة التاريخية، وتعيد توزيع السلطة والثروة بما يضمن المساواة الكاملة بين المواطنين.
    هذا المشروع لن يولد من مبادرات النخب المراوغة التي تعيد إنتاج امتيازاتها، بل من ثورة الهامش وتحالف القوى الشجاعة والأمينة التي دفعت ثمن الحروب والإبادة، والتي وحدها تمتلك الشرعية الأخلاقية والسياسية لتأسيس وطن جديد. وكما قال نيلسون مانديلا: "الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع"، فإن السودان لن يخرج من دوائر العنف والاستبداد إلا حين ينتزع المهمشون حقهم في تقرير مصيرهم، ويؤسسوا دولة المواطنة والعدالة.

    النضال مستمر والنصر اكيد.

    (أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de