(مصدر المفارقة أن هذه الصفوة على عقيدة أن السياسة الحق هي ما وقع في المدينة من زملائهم في الحركة السياسية، أما ما يقع منها في الأرياف فهو مجرد "نزاعات قبلية" من خارفين مصابين بـ"العقل الرعوي" الذي في جينياتهم بصيغته الخلدونية).
وفرت واقعة "جوج ماجوج" الأسبوع الماضي نافذة أخرى لنرى بنية قوات "الدعم السريع" عن كثب ونفاذ. وهي بنية قبائلية في صميمها لا تجد من صفوة الرأي الحداثية نقداً في حين يجأرون ضجراً وسقماً إذا ما استصحبت القوات المسلحة قبيلة في حربنا الدائرة ليومنا.
مصدر المفارقة أن هذه الصفوة على عقيدة أن السياسة الحق هي ما وقع في المدينة من زملائهم في الحركة السياسية، أما ما يقع منها في الأرياف فهو مجرد "نزاعات قبلية" من خارفين مصابين بـ"العقل الرعوي" الذي في جينياتهم بصيغته الخلدونية.
وحجبهم سوء ظنهم الغائر بالريف عن القبيلة لا ككائن سياسي تعريفاً وحسب، بل عن طغيان سياستها في السودان تحت حكم ديكتاتوري طال لـ60 عاماً من عمر استقلالنا (1956). وهو حكم حظر كل حاضنة ديموغرافية سياسية سوى القبيلة. وحل كل الحاضنات العابرة لها كالأحزاب والنقابات والاتحادات والصحف، بل "بالغ" الرئيس جعفر نميري بحل فريقي الهلال والمريخ في نوبة سماها "الرياضة الجماهيرية"، وليس من سوداني إلا "هلالي" أو "مريخي". ينعقد الوطن جراء هذا ويتعارف ناسه أنساً حولهما وحجاجاً.
وصارت القبيلة، بل بطونها وأفخاذها، هي الحاضنة الانتخابية لمجالس النظم التمثيلية الخصية. واعتزلت الصفوة الحداثية السياسة ما دام أن ربما ترحلت جملة واحدة من المواعين الحديثة إلى القبيلة. وبقيت هذه الجماعة الحداثية تبحث لا تزال عن السياسة في ما تعودته في الأحزاب وما جرى مجراها. فصارت مثل الرجل الذي أضاع شئياً في مكان معتم وراح يفتش عنه عبثاً تحت عمود النور.
و"جوج ماجوج" هو الاسم الكود لمحمد الفاتح محمد علي حسن الإعلامي الراتب المعروف لـ"الدعم السريع" الذي ينتمي إلى قبيلة المحاميد معقودة النسب مع الرزيقات التي ينتمي إليها محمد حمدان دقلو، ويقال إنها هي الحاضنة البشرية لقوات "الدعم".
ظهر جوج في "لايف" غاضب قال خلاله إن "كل من في قلبه وسوسة من ’الدعم السريع‘ فليبقَ مارقاً". وهي دعوة صريحة لقبيلتي السلامات وبني هلبة من العرب البقارة في جنوب دارفور أن يغادرا ميدان الوغى لأنهما شغلا الناس بنزاعهما ومقاتلهما وشغبهما، فما انقطع صدام بينهما إلا ثار ثانية. وفي نوبة غضبه طعن جوج في عرقهما وقال إنهما حتى ولا عرب.
فقامت الدنيا ولم تقعد. وشدد في اعتذاره اللاحق على ضيقه بالصراعات القبلية التي غلبت في الوسائط، وأنه لم يقصد هوية القبائل أو طبائعها، كما قال إن من وراء هذه الصراعات عملاء سوس يقبضون أجرهم من جهاز الأمن والاستخبارات لحكومة بورتسودان دساً للفتنة، واعتذر من كل حرج سببه لجماعة أو فرد.
بين بني "هلبة" و"السلامات" نزاع قديم عائد لأعراف الأرض في السودان. فأصل "السلامات" تشاد وأمنت للسودان لائذة من حروب تشاد التي تفجرت خلال الستينيات، وعاشت تحت هاجس ضرورة تملك دار إذ لا عزة في البادية لجماعة، ما ظللت ضيفاً عند غيرك، من دونها لأنها ضيافة ذات شروط مهينة.
وحصلت السلامات على الدار بفضل خدمات قدمتها لحكومة الإنقاذ خلال مساعيها لإخماد التمرد عليها في دارفور. وكان في ذلك خرق لأعراف الأرض تأذى منه بني هلبة والتعايشة. وتعاور المتضررون النزاع والصدام مع السلامات حتى خلال هذه الحرب. فاحتربا في أغسطس عام 2024 حرباً استدعت انسحاب كتائبهما المسلحة من ساحة الوغى لخوض معركة القبيلة. وشقيت قيادة "الدعم السريع" شقاء كثيراً في طي حربهما إلى حين.
وثار الخلاف بين بني هلبة والسلامات قبل نحو أسبوعين. فظهر فيديو يعتصم خلاله مسلحون من بني هلبة ومدنيون بمثابة احتجاج على ناظرهم، الموصوف بأنه وثيق الصلة بقيادات "الدعم السريع"، لدخول الدعم السريع، ويعنون السلامات، دارهم حمى عرضهم بغير علمهم.
وخرجت عليهم جماعة من "الدعم السريع" قالوا إنهم مزيج من بني هلبة والسلامات تعاقدت قياداته من الطرفين على ترك القبلية لتصير "الدعم السريع" قبلتهم لا غيرها، واتهموا المعتصمين بأنهم "كيزان وفلول" بيّتوا على الفتنة. وخرج لجماعة "لا للقبلية" هذه واحد من السلامات مصر على أن الخصومة بينهما وبني هلبة قائمة، وأن على القائد السلامي الذي قال إنه اتفق مع قائد هلباوي لفض النزاع القبلي أن يطلعهم على هوية ذلك الهلباوي. فمبلغ علمه أن بني هلبة أنفسهم لم يفوضوه وأنهم يعدون للحرب، ومن البلة تخدير السلامات بميثاق كذوب.
وما ذاع خبر "يوج ماجوج" حتى خرج بني هلبة والسلامات معاً لا على يوج وحده، بل على أهله جميعاً لم تشفع له رسالة والده في تعنيفه لسوء مقالته وطلب السماح له.
ظهر قائد لكتيبة بالرقم 515 اسمه عنكبوت من السلامات وهدد في "اللايف" أنه سيترك ميدان الحرب في الفاشر ليبلغ نيالا وينتصر لأهله إذا لم تتدارك قيادة "الدعم السريع" الموقف. بل جاء بالفعل وظهر على فيديو انتشر وهو يعتدي على يوج ويصفعه كفاً على وجهه. فأثار الاعتداء ثائرة المحاميد وقال أحدهم إن تلك إساءة فوق احتمالهم، كما توعد للقائد عنكبوت إنهم سيصلون إليه في ميدان المعركة في الفاشر ليثأروا ليوج "فما عندنا محمودي يتهان".
كانت سابقة القبيلتين في الحرب منذ الـ15 من أبريل عام 2023 حاضرة في فخر منسوبيها بهما حيال تهوين يوج لهما. فأشار إلى واقعة حدثت في السياق وهي أن الشيخ بدران السلامي، إعلامي الدعم السريع ومفتيه، جاء ليصور دافنة جثث بعض شهدائهم صرعى معركة الفاشر القائمة بين "الدعم" والجيش، فغضب بعض الحضور لذلك واعتدوا عليه. فقال السلامي إنهم أهل حرابة لا تصوير، وأقسم أنهم لو تركوا الميدان اليوم ومعهم بني هلبة لتهافت "الدعم السريع"، لكنهم ثابتون عند "الدعم" لأنها قضيتهم كمهمشين ولن يغادروها.
وتواترت فيديوهات عن مواجهات مسلحة بين الرزيقات محاميد وبني هلبة والسلامات في أنحاء نيالا تحتاج إلى تأكيد.
وانصراف الصفوة الحداثية عن سياسات القبيلة في شيفرة رعرعتهم على يد الغرب الاستعماري الذي رآهم ثمرة لمهمة الرجل الأبيض في أفريقيا الذي جاء إلى القارة من أوروبا متكبداً الأهوال ليعلمهم ويعلق برقبتهم تبعة استنقاذ الأهالي، أي شعبهم، من بدائيتهم وشرور أنفسهم، ووطدتهم في اعتزال القبيلة ثقافة الحركة الوطنية التي رأت في القبيلة ولاء خالفاً تتشظى به الأمة الوليدة كما في أغنية إبراهيم العبادي خلال العشرينيات من القرن الماضي:
جعلي ودنقلاوي وشايقي (أسماء قبائل) إيه فايداني
غير أسباب خلاف خلت أخوي عاداني
خلو نبانا يسري مع البعيد والداني
يكفي النيل أبونا والجنس سوداني
وبينما استحلت هذه الصفوة الجهل بالقبيلة لتبدل شعبها خيراً منها، فات عليها أن الإنجليز الذين استأخروا القبائل، مهروا في العلم بها لضبطها إدارياً بمقود ثقافتها، مما يغنيهم عن العنف معها في كل حين.
وكان العلم بالقبائل في اختصاص الإداري الاستعماري. وأصبحت كتابات الإداريين عن المجتمعات التي تحت ضبطهم موضوعاً لدراسات نظرت في المعرفة والشوكة. فبرز بجلاء كيف تنزلق مثل تلك المعرفة عن الأهالي بغتة لتصبح سبيلاً لإدارتهم أو ضبطهم "من واقعهم" بكلفة قليلة في المال والأرواح.
وكان الدكتور عبدالغفار محمد أحمد ممن درس العلاقة بين المعرفة بالمجتمع الموطؤ بالاستعمار وسبل إدارته من قبل المستعمرين، وأحسن. فقال إن هارولد ماكمايكل، السكرتير الإداري للحاكم العام في السودان (1926-1933) ومؤلف "العرب في السودان" (جزءان 1922)، هو الذي ربط بين الأمرين عندنا واستعان بالأنثروبولوجيين لتحسين أفهام الإداريين بـ"القبائل" التي تحت إمرتهم.
فالمعارف في هذه الأبواب في قول ماكمايكل ما لا غنى عنه للإداري الذي وقع عليه عبء تنشئة الشعوب البدائية التي طرائق تفكيرها بخلاف طرائقهم. فالبون شاسع بين ذهن الأوروبي المتعلم الذي يقف فوق كتف بضعة قرون من تراث الغرب وبين البدائي المتوحش, ولن يَعبُر الأوروبي المتعلم هذه الفجوة إلى فهم البدائي إلا بشق الأنفس وبالدراسة الصبورة. ولذا كان من ضمن ما يتدرب عليه الإداري هو الأنثروبولوجيا في كامبريدج أو أوكسفورد أو جامعة لندن.
ولم يعترف الإداريون الإنجليز في السودان بدور الأنثروبولوجيا في تيسير حكمهم وحسب، بل إنهم في حالات عدة اقترحوا للأنثروبولوجيين الحقول التي يريدون لهم التركيز عليها. وبلغت عناية الحكومة بالأنثروبولوجيا حد تعيين أنثروبولوجيين ممتهنين في الخدمة الاستعمارية. ومن هذا الباب جاءنا س ن نادل الذي درس نوبة جبال النوبة وكتب عنهم، وإيفانز برتشارد الذي كتب عن الزاندي والنوير.
ومن ضمن ما زكى به ماكمايكل تعيين أنثروبولوجيين حكوميين هو الحاجة إليهم بالنظر إلى بؤس خبرة الإداريين في هذا الباب. وأشار إلى أخطاء في إدارتهم بجنوب السودان ما كان لها أن تحدث لولا جهلهم بالعقائد المحلية والعادات، وبؤس حظهم بمعرفة طرائق البدائيين في التفكير. وأشار بالخصوص إلى مواجهتهم مع شعب النوير وأنبيائه الثوار وقصفهم بالطائرات. وقال إن ما عمَّق من تلك المواجهة "قلة علمهم (الإداريون) بالبنية الاجتماعية لهؤلاء الناس ومنزلة كل من السلاطين والكجورة المختلفين في الهرم الاجتماعي".
ولم يكُن منتظراً ولا مقبولاً بالطبع أن يعلم الوطنيون ورثة الإنجليز في الحكم عن قبائلهم لضبطهم، بل لإحسان سياستهم بهم لا من البعد. فما ثارت ثائرة في الريف في يومنا حتى اعتزلتها الصحافة لأنها "صراع قبلي" داحسي غبرائي من فرط أزليته وإملاله. أما الحكومة فدرجت، متى تفجر النزاع في الريف، على جمع الطرفين المتنازعين في "مجلس أجاويد" يكفكف النزاع ولا يطوي صفحته. كما بلغت الحكومة مبلغاً من التخلص من آثام تلك النزاعات والتبرؤ منها أن التزمت دفع ديات ضحايا نزاعات القبائل، مما دعا إلى تنبيهها إلى أن في ذلك ترخيص للقبائل في التمعن بالقتل ما دام أنها كانت هي من يدفع. ولم يكُن طقس الأجاوادية هذا سياسة تنفذ إلى جذور النزاع في الريف، بل مجرد حسن تخلص منه. فاستغلق بالنتيجة الريف عليها وتركت ناس "يوج ماجوج" على العواهن. وكانت الحرب التي هي السياسة في مواضع غير مستأنسة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة